روسيا 2022.. من التعاون إلى التحدّي المطلق
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:
في جردة حساب لعام 2022 على الساحة الروسية من جهة، وعلى المقلب المعادي لها من جهة أخرى المتمثل بالنظام الأوكراني ومن يقف خلفه من القوى الأمريكية والأوروبية، نشاهد مدى عمق الدسائس والمخططات والتدخلات الغربية في جبهة الحرب الأوكرانية التي باتت تتكشف يوماً بعد يوم وتتحوّل نحو العلن مع تسارع الأحداث لتثبت صوابية وأحقية موقف موسكو في حماية أرضها وشعبها.
وتتربّع روسيا الآن على عرش صانعي السياسات الدولية على جميع الساحات السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية، ومردّ ذلك أسباب عديدة، فصحيح أنها لم تحسم المعركة لمصلحتها بعد، لكنها بالمقابل حصدت نتائج ملموسة عجز الطرف الآخر عن تحقيق أي منها.
وكان من أبرزها على الأرض انضمام، إن لم نقل استعادة، أراضٍ تربو مساحتها على 100 ألف كم2 إلى روسيا بعد تعرّض سكانها للظلم والإرهاب من القوى النازية وبتصفيق ودعم أوروبيين لمجرّد كرههم لأصلهم ولغتهم الروسيين، كما شهدنا تحقيق أفضل الصيغ السياسية في تلك الأراضي، حيث أقرّ مجلسا الشعب في جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين بالإجماع دستوراً جديداً لكل من الجمهوريتين، وصوّت جميع النواب الـ43 الحاضرين في الجلسة العامة لمجلس الشعب في لوغانسك لمصلحة تبني الدستور، بينما صوّت جميع النواب الـ76 في مجلس الشعب في دونيتسك لمصلحة اعتماد الدستور الجديد، كخطوةٍ تاريخية تؤكد أن الجمهوريتين تندمجان في المجال القانوني لروسيا بسرعة وفعالية، وتملكان كياناً مكتمل الحقوق والواجبات ضمن روسيا الاتحادية، وبدورها أعلنت الحكومة الروسية عن إعادة إسكان جميع أهالي مدينة ماريوبول الروسية المحرّرة، وتأمين كل الظروف الإنسانية لمعيشتهم، واستمرار إعادة إعمار المدينة ومرافقها، إضافةً إلى إنشاء مراكز إيواء مؤقتة للمواطنين في المناطق الجديدة، مع تهيئة الظروف لحياة سلمية لهم، كما أن المدارس والمراكز الطبية والعيادات تعمل في المناطق الجديدة، ناهيك عن أن أعمال الترميم جارية أيضاً في مدينة سيفيرودونتسك بجمهورية دونيتسك.
وحتى على الصعيد الثقافي واصلت موسكو الدفاع عن هويتها الثقافية ضدّ محاولات التزييف والتحريف النازية، مؤكدةً أن تلك المحاولات محكوم عليها بالفشل وأن كل شيء سيعود إلى طبيعته وستأخذ الآثار التي تمّت إزالتها مكانها الصحيح مرة أخرى في وسط مدينة أوديسا ومدينة إسماعيل ومدن أخرى على أراضي أوكرانيا التي لا تزال تعاني حتى اليوم من النازيين العدوانيين. ولو تابعنا جرد الحساب في الشأن العسكري، لوجدنا أن موسكو لم تتراجع عن تحفّظاتها وشروطها، وغيّرت خطط معركتها على الرغم من أنها قامت بها بشكل مفاجئ بعد أن أثبتت تقاريرها الاستخبارية أن “الناتو” يستعدّ للزحف والانقضاض على القرم ودونباس، ومع ذلك لم ترجح كفة النصر قيد شعرةٍ لنظام كييف وداعميه مهما تلقى من الدعم، وأثبتت روسيا مرونتها في تغيير خططها العسكرية واستراتيجياتها على الأرض تلبيةً لمتطلبات حماية جيشها وعتادها على الرغم من أن عدد القوات الأوكرانية أكثر بثلاثة أضعاف من قوات روسيا ضمن عمليتها، حتى وإن شهدنا بعض الكرّ والفرّ وإعادة التموضع للقوات الروسية، فنرى بالمقابل تجديداً مستمراً للخطط ومنظومات الأسلحة والقيادات وإعادة هيكلة القوات، وتوسيعاً روسياً لبنك الأهداف لشلّ اقتصاد كييف وحلفائها، علّها تخضع لتحفظات موسكو التي أعلنت عنها مراراً وتكراراً للتفاوض على أساسها، كما قصّرت روسيا الجبهة للحفاظ على سلامة مقاتليها، في وقتٍ أشار فيه العديد من التقارير غير الرسمية إلى أن قتلى نظام كييف ومفقوديه فاق عددهم أربعة أضعاف القوات الروسية.
وعلى المقلب الآخر يظهر مدى التخبّط الأمريكي والغربي في تغيير استراتيجياتهم دون أدنى مرونة، ونظام كييف منذ مدة يطالب بمنظومات دفاع جوية والكل يعلم أن أوروبا لا يمكنها إمداده بمثلها، أما أمريكا وبعد طول انتظار فقد تبرّعت له بعددٍ محدود من البطاريات يحتاج تشغيلها إلى أشهر من التدريب، ومئات الجنود للإشراف عليها، ولا نعلم من أي نوع ستكون، فهناك أنواع رديئة ولن تكون ذات فائدة لنظام كييف، كما كان لافتاً تغيير واشنطن قراراتها وثوابتها منذ الحرب العالمية، حيث سمحت للدول التي حرمتها طوال عقود من أن تكون عسكرية بعسكرة نفسها، كاليابان وألمانيا، علها تساعدها في صراعاتها وتكون سنداً لها في مستقبلها المظلم.
لقد أثبتت العملية الخاصة الروسية أن هدفها ليس فقط حماية دونباس والقرم، أو حتى روسيا من خطر النازية وتمدّد “الناتو”، بل يكمن في حماية العالم من تمدّد الخطر الأطلسي وفتكه بالدول عبر فرض سياساته الابتزازية وسلبه قرار الشعوب وإرادتها لاستغلال اقتصاداتها لمصلحة انتعاش اقتصاداته، وكشفت العملية خذلان توقعات المحللين والخبراء بانهيار وشيك في الاقتصاد والعملة الروسيين في غضون الصيف الفائت “حسب تخميناتهم”، ليتبيّن وقبل بدء الخريف مدى الانهيار الاقتصادي الأوروبي وما يقابله من انتعاش متحقق على الاقتصاد الروسي الذي تعرّض لفرض تسع حزم عقوبات ضدّه من قوى “الناتو”، ومع ذلك بقي متماسكاً بفضل حكمة الإجراءات الحكومية المتخذة، كما أثبت لدول العالم مدى موثوقيته على اعتبار أن عملته مرتبطة بالواقع لا بالمضاربات الوهمية الغربية، إضافةً إلى ذلك عملت روسيا على إعادة هيكلة اقتصادها وتعاونت مع قوى الجنوب العالمي لقيادة نظام اقتصادي جديد مبني على العدل والعلاقات الاقتصادية، في حين تمت تعرية هشاشة الاقتصاد الغربي منذ جائحة كورونا، وما زال يظهر للعيان حجم السراب الذي كان يحميه من السقوط سابقاً.
روسيا الآن أثبتت أنها لا تنظر إلى الخلف أو تحسب خط الرجعة، بل على العكس استغنت عن أكبر شريك وسوق لتصريف منتجاتها في القارة العجوز، لتستبدله بالأسواق الآسيوية في الهند والصين وغيرها من الدول التي سئمت بناء وتفصيل اقتصاداتها وفق الإملاءات الغربية الانتهازية، والتي أثبتت أنها أكثر وفاءً لموسكو في جميع الظروف والتقلبات الجيوسياسية.
في نهاية عام 2022، صحيح أن قيادة العالم لم تتغيّر إبان الحرب الأوكرانية وصعود القطب الروسي، لكن الأهم هو ما تحقق من مؤشرات التغيّر، فقد أصبحنا نشاهد دولاً تقول: “لا لأمريكا”، وتتحداها بكل قوةٍ ودون أي تراجع وعلى رأسها روسيا، وإلى جانبها الصين وإيران والدول المستقلة.