الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فذاذة.. اسمها كريم يونس!

حسن حميد

يا إلهي، أيُّ فذاذة هذه التي تجعل من الأحلام وقائع جاريات، ومن الأمنيات حقائق مأنوسة، وأيُّ فذاذة هذه التي تذيب الألم ليصير أمجاداً، وتساهر العتمة حتى تصير صباحات متأججة، وتواقف الانتظار حتى يصير وقتاً ملك اليدين، وتستلّ الفرح من الأحزان الكحلية، أيُّ فذاذة هذه تشيل بها قصة الأسير الفلسطيني كريم يونس، وأي حقائق تربخ بين تضاعيفها، فتنحي كلّ مستحيل وتمحوه! وأيُّ أحداث وحادثات تماشيها لتقول بالصوت العالي لا شيء يتقدم المعنى الوطني، فالحياة له، والعزّة له، والكبرياء الأنوف له أيضاً!.

* * *

من داخل الجامعة، وفي النقب الحبيب، أخذ الجيشُ الإسرائيلي كريم يونس، طالب الحقوق، إلى السجن لأنه فلسطيني مقاوم للاحتلال، أُخذ للسجن أسيراً، وبعد التحقيق معه، حكم  بالإعدام، ثم خفف بالسجن المؤبد، ومدته أربعون سنة، في عام اعتقاله سنة 1983، وقد كان عمره ثلاثة وعشرين عاماً، أمّا تهمته فهي المقاومة التي كان نتيجتها قتل مستوطن إسرائيلي وجرح آخرين، ومع أنّ كريم يونس لم يعترف بلائحة الاتهام الموجهة ضده، إلا أنّ الحكم نُفّذ بحقّه، فقضى 40 سنة في زنازين السجون الإسرائيلية، وحين انتهت مدة سجنه المؤبد، خرج كريم يونس، ولم يسمح لأحد من أهله اصطحابه من السجن، لقد أخرجه السجانون خلسة وأنزلوه في مكان لا يعرفه كي تزداد حيرته!.

***

كلّ هذا ليس خبراً طويلاً قالته الأساطير، أو مروية رواها الخيال، أو قصة نسجتها الأحلام، ولا هو إعلانات أو دعاية لبطل رياضي، هذا خبر وجيز لواقع لم تعرفه الأساطير ولا الأحلام ولا الدعايات، لأنه فعل خالٍ من المبالغة والتجميل، إنه قصة كريم يونس البطل الفلسطيني الذي دخل السجن شاباً وخرج بعد أربعين سنة شيخاً بعدما سلبه الاحتلال الإسرائيلي حريته كلّها، أبوه مات ولم يُسمح له بزيارته، وأمّه زارته 700 مرّة، خلال أربعين سنة، ولم يلمس يدها، لم يقبّلها، كانت زياراتها للدموع والصبر، ووصيتها له: اصبر، فأنت في نظرنا بطل، وأنت في نظر شعبك بطل؛ وقولته المؤكدة: سأخرج يا أمي رغم أنف المحتل، وحين خرج، مضى إلى أمّه التي انتظرت خروجه طويلاً، فزارها في قبرها، وقال لها مذكّراً: ها قد خرجت يا أمّي! صحيح بجسد هرم، وشعر أبيض، لكنني خرجتُ، وأنا قادر على منازلة العدو المحتل؛ وقناعتي الآن أكبر بأنه إلى زوال هو وسجونه، لأنّ المحتل محتل، ولأنّ الغريب غريب!.

***

كريم يونس، لم يخضع جسمه للإماتة التي أرادها المحتل، لذلك لم ينفق ساعات سنوات السجن سدى، لقد تعلّم اللغات التي لا يعرفها حتى أتقنها، ودرس سنوات جامعية جديدة، فنال شهادة البكالوريس، ثم درس الدراسات العليا فحاز شهادة الماجستير، ثم مضى إلى تأليف الكتب، فصدر له كتابان هما: “الواقع السياسي الإسرائيلي”، و”الإيديولوجيا الإسرائيلية”، وكان فيهما الكاتب الذي يرى الحلم الفلسطيني المشدود إلى الحرية والاستقلال، مثلما كان فيها الكاتب الفطين الذي استبطن الفكر الصهيوني ووقف على مآلاته، والرائي الذي واقف الدعاوى التاريخية والدينية الإسرائيلية، فجرّدها أكثر من المصداقية لأنها تقوّلات وأكاذيب ومزاعم لا أسانيد لها في التاريخ المحقق ولا في العقائد الدينية الصحيحة. وفي سنواته التالية، من زمن السجن، بات المشرف العام على طلاب الدراسات العليا من الأسرى الفلسطينيين داخل السجون الإسرائيلية، ليعرفوا إلى أيّ تاريخ ينتمون، وإلى أيّ مستقبل يمشون! وثقافته السياسية المكينة جعلته عميداً للأسرى الفلسطينيين المدافع عن حقوقهم وما يحلمون به.

***

كريم يونس، أسطورة وطنية مضيئة نابعة من صميم الرواية الفلسطينية التي تؤكد للعالم أجمع بأنّ الأوطان العزيزة تحتاج إلى عزائم عزيزة أيضاً، وأنّ الحقّ يحتاج إلى قوة الإرادة من أجل سحق شناءة الظلموت الذي عرفته البلاد الفلسطينية وعاشته منذ مئة سنة وأزيد، وأنّ الأوطان عائدة إلى أهلها، لا بدّ، مثلما هي الشموس عائدة، في كلّ يوم، لمعانقة الصّباحات بالشوق الأتمّ.

Hasanhamid55@yahoo.com