مصطفى الحلاج…. شهيد الفن وشيخ التشكيليين الفلسطينيين
أمينة عباس
يُعتبر الفنان التشكيلي مصطفى الحلاج الذي رحل عن عالنا في مثل هذه الأيام من العام 2002 إثر حريق شبّ في مرسمه بدمشق وأتى على معظم أعماله الفنية التي لا تُقدّر بثمن، وقد خسر حياته وهو يحاول أن ينقذها من أهم رواد الفن التشكيلي الحديث وقد أطلقتْ عليه بلده اسم “شيخ التشكيليين الفلسطينيين” حيث كان أول فلسطيني يدرس النحت بشكل أكاديمي.
غموض الحلاج
عندما زرتُه في مرسمه عام 2002 وقعت عيناي على ما يشبه أولئك القادمين والعائدين من ثنايا حضارات موغلة في القدم، ولكن عندما جلستُ معه لنتحاور كانت سكينته وهدوؤه تشبه ذاك المتعبد في معبده الذي يمارس طقوساً بعيداً عن كل ضوضاء،ويرسم كما يرسم الطفل ليكتشف الحياة ونفسه أولاً.. يقول عن نفسه: “الحلاج غامض..أبحث عنه.. ربما تساعدني لوحاتي للتعرف عليه، لكن حتىالآن لا يزال مصطفى الحلاج غامضاً بالنسبة لي”..وكان يؤمن أن الفنان لا يقدم أفكاراً على الإطلاق لأن الأفكار يقدمها الأدب، أما الفنان فيقدم تداعياته الخاصة، وكان أشد ما يؤلمه أن الفن أصبح في الوقت الحاضر خاضعاً لمتطلبات السوق، وقد تحول إلىتجارة،وقيمة اللوحة تتحددحسب ثمنها.
لستُ متصوفاً بل زاهد
في معظم حواراته كان يؤكد على أن عمله الفني هو نتاج جماعي لأنه كفنان جزء من الطبيعة: “أنجبتني أمي وأبي، ولكن بعد ذلك تعلمتُ لغتي وقرأتُ ثقافتي واكتسبتُ عادات مجتمعي التي تكونت عبر آلاف السنين.. أنا لست ملكَ نفسي.. أنا جزء منالكل، ونتاجي هو جزء من الكل” وكما كانت للحلاج فلسفته الخاصة في الحياة كانت له فلسفته الخاصة في الفن وهي جزء من فلسفة الحياة، وكان ارتباط اسمه بالحلاج المتصوف سبباً في أن يعرف عن التصوف الكثير.. يقول: “أنا ورِطتُ باسمي، فاضطررت إلى أن أتعرف على جميع التجارب الصوفية على الكرة الأرضية من التاوية حتى الحلاج، وحين شُبّه الحلاج بالمتصوف كان يؤكد دائماً: “أنا لست متصوفاً، أنا زاهد، وهناك فرق بين المفهومين، أنا زهدتُ بكل شيء من أجل فني” ويعود ليقول:”أنا بشر ولست جبلاً، لكنني أنا الخط الفاصل بين قمة الجبل وسديم الفراغ، ومابين البحر واليابسة آخذ صلابتي من قمة الجبل وقلقي من الموجة العائدة.. أنا مثل أي إنسان.. أستطيع فقط أن أعبّر بالرسم”.
وعن الفرق بين المتصوف والفنان يقول: “الفنان يحتاج إلى أدوات ومواد ليبدع عمله الفني، أما الصوفي فيبدع حضوره في المطلق الذي ينشده عبر هوى غير محقق وغير منغلق، والتجربة الصوفية بالنسبة للفنان المحرق الذي يصهر تجارب الحياة والفكر والحلم والواقع والموقف الاجتماعي والكوني، وهي تكمن خلف طاقة الإبداع المودعة خلف المهارة والتقنية التي يمتلكها”.
فلسطين الحلاج
كانت فلسطين قضيته الفنية والسياسية، فمنذ تهجيره منهاعام 1948 كان طموحه يتجه نحو تعلم الأدوات العسكرية، وهذا ما جعله يتجه نحو قراءة بعض الكتب العسكرية:”فكرتُ أن أكون صحفياً لأكون أداة صراع”لكن وضمن نطاق الضرورات المحيطة به وطاقاته الخاصة اختار دراسة الفنون الجميلة:”إنني فلسطيني مطرود من أرضه وبأدواتي البسيطة بجوار الحركة السياسية والكفاح المسلح والتنظيمي والفكري أقاتل..أنا فلسطيني، وكل ما ينتج عني يعبّر عن فلسطين” وكانت فلسطين موجودة في كل لوحاته، وكان يرى أن الحركة التشكيلية الفلسطينية هي جزء من الحركة التشكيلية العربية، ولكنه كان يعترف أن إنتاج الفنانين الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة يختلف عن سواه خارج الأرض المحتلة لاختلاف المعاناة التي يعيشها كل طرف، وكذلك كان يرى أن تجربة الفنان الفلسطيني في الوطن العربي تختلف عن تجربة زميله في أوربا وأميركا، لكنه كان يرى أن الجميع يعزفون في أوركسترا واحدة ألا وهي الهمّ الفلسطيني والحلم الفلسطيني، ولم يعبّر مصطفى الحلاج عن القضية الفلسطينية بشكل مباشر،وأهم ما ميز أعماله تلك العلاقة الفنية الجميلة بين ما هو واقع وما هو رمز لموضوعاته الفلسطينية:”كلنا يركب الكلمات ليرتد على ذاته، أما أنا فأركب صمت الحرب كي أعبر القاموس.. لا يبدأ الرمز إلا من غير القدرة على الإيضاح أو عنف التغيب والقدرة على الإفصاح في وجه الصمت، أي بمعنى أن المبدع لا بد أن يعبر خندق السلطة في العادات أوالتقاليد والرقابة، فيركب سهوة الرمز”.
الموت طاقة للشجاعة
كان الفنان الحلاج يرى في الموت طاقة للشجاعة، وكان يقصد أنه عندما نتقبل الموت نستطيع أن نعمل أي شيء: “الموت فرض وجودي، وأنا لو لم أقبل الموت ما أنتجت آلاف الأعمال التي سرقت وضاعت، ثم ابتدأت من جديد.. أي فنان إذا لم يلمس المصادر الأساسية للحياة فإنه لن يصل إلى الذروة مهما ارتفعت مهارته”.
تداعيات وارتجاليات الحياة
يقول الحلاج: “أنا أرسم مثلما أهرش برأسي، لذلك قررتُ أن أنهي هذه الحياة بلوحة لها بداية نهايتها القبر، لوحة يحكمها إيقاع موسيقي بصري بمعنى الحياة: الحلم، الألم والفرح” وقد بدأ الحلاج العمل فيها وسماها “تداعيات وارتجاليات الحياة” منذ عام 1968 في تونس، وعندما حط رحاله في دمشق أكمل ما بدأ وتفرغ لها بشكل كامل منذ العام 1994 واللوحة هي مجموعة تداعياته وارتجالياته..يقول:”لم تكن للّوحة أية فكرة مسبقة أو تخطيط وإنما بدأتُ بها ولم أنتهي ولن تنتهي إلا بموتي أو عجزي” كان الحلاج ينوي بعد أن قام بتصوير كافة مراحلها بدخولها موسوعة غينيس للأرقام القياسية بوصفها أطول لوحة في تاريخ الغرافيك، لكن أحداث 11 أيلول 2001 حالت دون تنفيذ الاقتراح، واستمر في العمل في هذه الجدارية التي وصل طولها إلى 114 متراً حتى آخر يوم في حياته، فكانت عملاً ملحمياً عظيماً، وقد رسم الحلاج نفسه في كل عشرة أمتار ليكون شاهداً على الحياة.
من فلسطين إلى لبنان فدمشق
ولد الفنان التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج في العام 1938في قرية سَلَمة قرب مدينة يافا الفلسطينية، وكان والده يعمل في بساتين الفاكهة المحيطة بالقرية، ثم انتقل إلى مدينة اللد الفلسطينية في عام النكبة 1948 ثم إلى رام الله فمصر التي أنهى فيها دراسته الإعداديةوالثانوية وليقرر عام 1957 الالتحاق بكلية الفنون الجميلة في جامعة القاهرة-قسم النحت وقدتخرّج عام 1963 وكان أول فلسطيني يدرس النحت بشكل أكاديمي، وبعد ذلك أكمل دراساته العليا في جامعة الأقصرودرس الفن المصري القديم، وبقي في مصر خمسة وعشرين عاماً، وركّز خلال دراسته للنحت على تاريخ الفن المصري القديم، بالإضافة للفن الكنعاني والفينيقي، وفي الخامسة والثلاثين من عمره قرر الانتقال إلى بيروت التي عاش فيها ثماني سنواتٍ معاصراً الحرب اللبنانية عام 1982 وخسر حينها ما يقارب خمسة وعشرين ألف لوحة بسبب القصف الإسرائيلي لبيروت، وعندما لم يعد بإمكانه العيش فيها انتقل إلى دمشق التي كان يطلق عليها اسم أم بلاد الشام، وعاش فيها بقية حياته، واستلم إدارة صالة ناجي العلي للفنون التشكيلية.
جوائز
شارك مصطفى الحلاج في العديد من المعارض الفردية والجماعية في عدد من الدول العربية والأجنبية، واستحق جوائز عديدة،منها: الميدالية الفضية في فلسطين والإمارات وتونس وسورية كما ساهم في تحكيم عدد من مهرجانات الفن التشكيلي.