مجلة البعث الأسبوعية

في ذكرى رحيله السادسة.. رفيق سبيعي الغائب الحاضر في الذاكرة

جمان بركات

استقى مفردات شخصيته “أبو صيّاح” من المحيط الذي نشأ فيه في حي البزورية الدمشقي، فهو لم يؤدها يوماً على سبيل التمثيل وإنمّا عاشها، ورنين لهجتها كان يتردد في أذهانه منذ الصغر، شخصية “أبو صيّاح” الخالدة في أذهان المشاهدين السوريين والعرب كصورةٍ متكاملة لابن البلد، صاحب النخوة والمهابة وخفّة الظل، على الرغم من  حضورها الطاغي في الذاكرة الدرامية العربية إلا أنها لا تختصر المسيرة الإبداعية للراحل رفيق سبيعي التي امتدت لأكثر من سبعين عاماً.

لُقب بفنان الشعب وهو اللقب الفريد الذي منح لرفيق سبيعي من قبل الرئيس الراحل حافظ الأسد، ليتابع بعدها إبداعاته التي لاقت تكريمات عدة كان أهمها وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة الذي منحه إياه الرئيس ​بشار الأسد​ في عام 2008.

مشواره الفني

رفيق سبيعي أجمل من أدى دور كبير الحارة والمختار أو الزعيم في المسلسلات الشامية، فهو المبدع فنياً وأخلاقياً وإنسانياً، والمحب لفنه والمحبوب من أبناء وطنه، قدم الأعمال الكثيرة التي حفرت في ذاكرة الفن العربي عامة والسوري خاصة، فهو من جيل المؤسسين الذين صدرّوا الدراما السورية إلى الدنيا، شبّ رفيق سبيعي على حلم الفن، متحدياً إرادة العائلة وظنون المحيط، فلم يكن الأمر سهلاً في دمشق حينها، حيث كان يطلق على الممثلين لقب “المشخصاتي”، وكان يعتبر التمثيل عيباً اجتماعياً ما اضطره إلى البدء باسم فني هو “رفيق سليمان”.

وأبدع “الزعيم” في فن المونولوج الذي كان فناً حديثاً وقتها قياساً لتلك الفترة التي لم يبرع فيها الكثيرون كبراعة السبيعي، ففي عام 1962 ظهر سبيعي في برنامج “نهوند” التمثيلي بشخصية شعبية “سعدو حنّي كفك”، وقدم أغنية بعنوان “حبك بقلبي دوم ساكن مطرحو”.

وشارك عبر إذاعة دمشق في برنامج للأغاني الضاحكة بشخصية “أبو صياح”، وتوالت أغنياته التي نالت حظها من الشهرة مثل “تمام تمام هدا الكلام”، و”شروال أبو صياح”، و”شرم برم”، وكانت أغنيته “لاتزعلي ياشام” عام 2016 خاتمة رحلته الغنائية، وقدم أيضاً برنامجه الشهير “حكواتي الفن” سارداً فيه أسرار من الفن السوري.

حياته

ولد رفيق سبيعي في الأول من شباط عام 1930، بدأ في عمر ثماني سنوات يحضر الموالد النبوية برفقة أخيه، وكثيراً ما كان ينسل راكضاً باتجاه المنشدين، مغنياً معهم التواشيح والأناشيد الدينية، وفي أواخر الأربعينيات قدم مقاطع كوميدية مرتجلة على مسارح دمشق ونواديها الأهلية، ثم انتقل إلى الغناء والتمثيل في فرق فنية عدة كفرقة “علي العريس” و”سعد الدين بقدونس” و”عبد اللطيف فتحي” و”البيروتي” و”محمد علي عبدو”.

وفي طفولته كان حضوره لافتاً في أعراس حي البزورية فقد كان يغني لكارم محمود وعبد العزيز محمود وعبد الغني السيد، إضافة إلى براعته بأداء منولوجات شكوكو وإسماعيل ياسين، وفي المنزل كان لا يحلو له مذاكرة دروسه إلا على صوت أسطوانات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكثيراً ما كانت تستدعيه والدته ليغني لنساء الجيران، حين يجتمعن في الدار مستمتعين بجمال صوته. ولم يكمل دراسته بعد الانتهاء من المرحلة الابتدائية وبدأ يعمل خياطاً ليساعد والده في تحمل أعباء ومصاريف المنزل، وعمل في الخياطة ثلاث سنوات لكنه فشل في هذه المهنة، فبدأ يشارك في نوادي الكشافة وظهرت مواهبه في الغناء والعزف والتمثيل، في المسرح وجسد مختلف الشخصيات في أعماله وترك بصمات متميزة في الحركة المسرحية، ولاحقاً في السينما والدراما السورية ليستحق وبكل جدارة لقب “فنان الشعب”.

“أبو صياح”

“أبو صياح” ذلك الرجل القبضاي في الشام الذي لا يتخلى عن شاربه ولا عن ثيابه الفلكلورية ولا عن عصا الخيزران، والذي يهابه الجميع وهو صاحب مبدأ وقيم اجتماعية، وهذا ليس ببعيد عن شخصية الراحل رفيق سبيعي الحقيقية فهو ابن الحارة الشامية التي ترعرع فيها على تلك الأصول الثابتة، وشخصية “أبو صياح” ابتكرها من باب الصدفة خلال أواخر الخمسينات حيث كان يعمل بمثابة ملقناً في مسرح عبد اللطيف فتحي، وفي ذات مرة غاب الفنان أنور المرابط فاضطر رفيق سبيعي لتقديم دور المرابط، وارتدى الشروال وباقي اكسسوارات الشخصية وقدمها بشكل عفوي.

وقدمت هذه المسرحية على أحد مسارح دمشق، وحضرها وقتها صباح قباني مدير للتلفزيون السوري، وعندما تأسس التلفزيون عرّفه إلى الراحل نهاد قلعي والفنان دريد لحام وهكذا بدأت مسيرة “أبو صياح” التلفزيونية مع غوار الطوشة وحسني البورظان وقدم هذه الشخصية في العديد من الأعمال السينمائية والتلفزيونية الأخرى.

المسرح والسينما والتلفزيون

أسهم فنان الشعب في تأسيس عدد من الفرق المسرحية الناشئة بعد الاستقلال عام 1946، حيث صنع شخصيته الأشهر “أبو صياح” قبضاي الحارة الشامية بزيه الدمشقي الفلكلوري الأصيل، وبعد سنوات قليلة على بداية عمله المسرحي أواخر الأربعينيات وتقديمه عدد من الأدوار المرتجلة، كانت النقلة الفنية في عام 1956 مع تأسيس المسرح الحر الذي عمل فيه معظم رواد الحركة المسرحية السورية، حيث بدأ بتقديم مسرحيات كاملة إلى جانب فقرات غنائية اعتادت الفرق المسرحية على تقديمها في ذلك الزمان. ومن المسرحيات الأولى التي شارك فيها “بالمقلوب”، و”مرتي قمر صناعي”، و”طاسة الرعبة”، وشارك في مسرحية نالت شهرة ملحوظة في أواخر الخمسينيات هي مسرحية “صابر أفندي” 1958، من تأليف الراحل حكمت محسن.‏ كما كان رفيق سبيعي من بين الفنانين السوريين المؤسسين للمسرح القومي عام 1960، ومن أهم المسرحيات التي شارك فيها مع المسرح القومي “أبطال بلدنا” عام 1960، و”البورجوازي النبيل” عام 1962، و”الأشباح” عام 1962، و”مدرسة الفضائح” عام 1963، و”الأخوة كارامازوف”، و”الاستثناء والقاعدة” عام 1964. وبعد غياب لسنوات عاد سبيعي إلى المسرح عام 1996 ليشارك في مسرحية “مات ثلاث مرات” بتوقيع المخرج حاتم علي، ثم شارك عام 2001 في مسرحية “شو هالحكي” من إعداد وإخراج كل من سيف الدين السبيعي ونضال سيجري وجلال شموط عن نص لزكريا تامر.

وفي السينما، قدم رفيق سبيعي ما يزيد على الخمسين فيلماً، أحدثها “سوريون” في عام 2015، ومن أبرز مشاركاته السينمائية، دوريه في فيلمي السيدة فيروز الشهيرين “سفربلك” و”بنت الحارس”، كما شارك في مجموعة أفلام سورية أخرى منها “أحلام المدينة” و”الليل”.

ومن أهم أدواره التلفزيونية دور “الزعيم” في مسلسل “أيام شامية”، و”الخشخاش”، و”دمشق يا بسمة الحزن”، و”العبابيد”، و”مبروك”، و”صقر قريش”، و”مرزوق على جميع الجبهات”، و”ليالي الصالحية”، و”الحصرم الشامي”، و”أهل الراية” 2008. وكانت آخر مشاركاته في مسلسل “حرائر” عام 2015، وحاول رفيق سبيعي تقديم أدوارٍ يؤكد فيها حضوره كممثل بعيداً عن صورة “أبو صياح”، وتمكن من ذلك بنجاح عبر تقديمه لشخصية “طوطح” اليهودي في مسلسل “طالع الفضة” عام 2011.