معرض علي مقوص في صالة تجليات.. الحنين مرسوماً بألوان الخريف
أكسم طلاع
شهدتْ صالة تجليات في دمشق خلال الأيام الأخيرة من العام المنصرم معرض الفنان التشكيلي علي مقوص، القادم من محافظة اللاذقية، صاحب التجربة المميزة بموضوعها الأثير، وهو الشجرة برمزيتها المقدسة كالحياة، وقد حملت هذه الرمزية عند مقوص جوانب اجتماعية وثقافية يحتفي في ظلها أبناء الأرض وبناتها في طقوس بالغة المودّة والرحمة.
كما يشتغل علي مقوص في لوحته على الطبيعة البكر، مثله مثل كائن بريّ يحترم خصوصية العيش بكل تفاصيل العشب والماء والأغصان الصغيرة، كما يرعى تفاصيلها التي تنمو على مهل، ويراقب ما فعلته السماء والمطر بصخورها وقيعان أوديتها وما يحيط بها من شجيرات قصيرة. هذا العالم السحري يجسّده علي مقوص في أكثر من عشرين لوحة زيتية من القياس المتوسط مجتمعة ضمن عائلة لونية موحدة، حيث يلاحظ المتتبع لتفاصيل التنفيذ أن الفنان أولى الجانب الغرافيكي أهمية خاصة، كما يكتشف أن هناك أكثر من طبقة على سطح اللوحة، وغالباً ما يقوم الفنان بتهشير سطح اللوحة باللون الاسود تاركاً لمراحل التلوين اللاحقة تراكمات وطبقات تأخذ مكانها وتبقي على بعض من جوانب صغيرة بين العناصر المرسومة، وكأنّ النبات المرسوم قد نبت فوق بعضه عبر أكثر من فصل في بقعة واحدة.. بهذه الأناة والصبر يرسم طبيعته المنتقاة في يوم خريفي مكتنز بالحنين إلى شيء مفقود.
في هذا المكان، أشعل الأهل يوماً مواقدهم وأقاموا صلاة العيد في صباح مبارك تظللهم أشجار معمرة بالحكمة والحكاية.. هذه اللوحة التي يكرّرها مقوص منذ أكثر من أربعين عاماً، حتى بدأنا نسمّي بعض الأشجار باسم شجرة “علي مقوص” لما فيها من سحر وخصوصية ميثيولوجية.
ينزعُ الفنان في لغته التصويرية نزوعاً خاصاً نحو عوالم فن الحفر “الغرافيك”، ربما يجدُ ضالته في التقشف اللوني، تحقيقاً لبلاغة التعبير التي ينشد، وربما هي حالة شخصية عميقة في نفس الفنان المتأملة بحبّ لكل ما يحيط به، فضلاً عن موهبته التي لا تغريها الأضواء وصخب المدينة المزيّف ورفض العالم الاستهلاكي وثقافة التشيؤ.
ولد مقوص في اللاذقية عام 1955 ويحمل الإجازة في التصوير من كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، درّس في الجزائر والإمارات العربية المتحدة وعُمان وسورية، تصوّر أعماله التعبيرية شخوصاً مجتمعة حول شجرة ويركز على الطبيعة الجمعية للإنسانية تأكيداً للعلاقة الحميمة بين الإنسان والطبيعة، ومشاعر الحنين للماضي والطبيعة القروية في الساحل السوري، كما تنطوي أعماله على مستويات رمزية وروحانية وشعائرية، ولا تقتصر على القابلية المستمرة للتأويل الذي يحتمل إسقاطات فلسفية تتعلق بالخصوبة والعودة للطبيعة الأم.
ويجسّد هذا المعرض مختصراً كثيفاً للفن السوري اللائق بالثقافة السورية العلوقة بالأرض والإنسان، وأنتجت فنها الحقيقي الذي لن يُمحى من ذاكرة العالم ووجدانه.. ليصح القول: “على هذه الأرض ما يستحق الرسم.. على هذه الأرض ما يستحق الحياة”.