الحديقة الخلفية تتمرّد على واشنطن
إبراهيم ياسين مرهج
عملت واشنطن في الماضي والحاضر على ضرب حركات التحرّر في الدول القريبة منها قبل البعيدة، ولا يمكن لأحد أن ينسى أو يتناسى الدور الأمريكي في دعم الانقلابات العسكرية والمتمرّدين وتجار المخدرات في المكسيك وكوبا والهندوراس ونيكاراغوا وتشيلي وفنزويلا وغيرها.
وطالما اعتبرت الإدارات الأمريكية، أن الأمريكيتين اللاتينية والوسطى، حديقتها الخلفية ولا يحقّ لأحد كائناً مَن كان أن يقيم علاقات صداقة أو تحالف مع دول هاتين القارتين، وكانت أزمة خليج الخنازير في كوبا التي كادت تؤدّي إلى حدوث صدام مباشر بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا، مثالاً على أن واشنطن مستعدّة لأيّ شيء لمنع تحوّل الدول الجارة لها إلى أراضٍ تستقبل قواعد عسكرية لدول أخرى، بحجّة حماية أمنها القومي، الأمر الذي ترفض أن تعدّه حقاً للدول الأخرى، بل نشرت وتسعى إلى نشر قواعدها العسكرية في معظم دول العالم وعلى حدود منافسيها وفي جوارهم.
وهذه سياسة أمريكية ليست بالجديدة، فهي تعتبر أن أنظمة الحكم في هاتين القارتين، لا يجب أن تخرج من عباءتها حالها كحال العديد من الدول في قارات العالم المختلفة، ولكن الجديد الذي يواجهه النظام الأمريكي أن الانتخابات الأخيرة في الأمريكيتين أدّت إلى وصول العديد من الحكومات اليسارية إلى الحكم، وأول نكسات واشنطن كان سقوط النظامين المكسيكي والكولومبي المواليين لها، علماً أن هاتين الدولتين كانتا على مرّ العصور من قلاع الحكم الأمريكي في تلك المنطقة، وكانت تبعيتهما لواشنطن عمياء لدرجٍة لا توصف.
فلم يكن من الممكن أن نرى في أيّ موقف سياسي موجّه من النظامين الحاكمين في هاتين الدولتين، أيَّ نوع من العتب ولو كان بسيطاً على واشنطن، ولكن الخطاب العالي النبرة الذي واجه فيه الرئيس المكسيكي اليساري أندريس مانويل لوبيز أوبرادور نظيره الأمريكي جو بايدن خلال لقائه به في مستهلّ قمة ثنائية في مكسيكو، أمس الاثنين، وطالبه فيه “باحترام دول أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي”، مؤكداً أن أعمالها تتعارض مع سياسة حسن الجوار، دليلٌ على أن هذه الدول بدأت تخرج على الإرادة الأمريكية ولم تعُد مجرّد حكومات دمى تحرّكها واشنطن من خلف الكواليس.
ولكن في المقابل، نجد أن واشنطن لم تقبل بالأمر الواقع وبدأت هجوماً معاكساً لإسقاط الحكومات اليسارية، وما محاولات اغتيال الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، والانقلاب على شرعيته وتشكيل حكومة منفى مدعومة من واشنطن والقوى الغربية، إلا حلقة من حلقات الهجوم الأمريكي المعاكس الذي تبعه أيضاً العديد من الحلقات، كان منها تحريك عصابات المخدرات في المكسيك الأسبوع الماضي لشلّ البلاد وضرب حكومتها الشرعية بحجة اعتقال ابن رئيس أكبر عصابة تمتهن هذه التجارة في البلاد.
أما في البرازيل أكبر الدول من حيث الجغرافيا والاقتصاد والتأثير السياسي في أمريكا اللاتينية، فقد شكّلت عودة الرئيس اليساري لويس إيناسيو لولا دا سيلفا إلى الحكم فيها ضربةً قاسيةً لواشنطن بعد أن فقدت حليفها جايير بولسونارو، وسارعت إلى تحريك اليمينيين المتشدّدين لمحاولة الانقلاب على دا سيلفا، وهو ما فشلت في تحقيقه.
في النهاية، ولكي تحظى الدول في الأمريكيتين وحتى الدول الأخرى في العالم باحترام واشنطن، ولمنعها من التدخل في شؤونها الداخلية وما يجرّه من ويلات، عليها أن تأخذ مواقفَ نابعةً من مصالحها الوطنية وتخدم شعوبها، ولا تخدم حكام واشنطن الذين لا همّ لهم سوى زرع بذور الخلاف والحروب حول العالم، ما يجعل من شركات الأسلحة والطاقة وغيرها التابعة لهم الرابح الأكبر بمعزل عن الأرواح التي تُهدر على طريق تحقيق مصالح واشنطن العظمى.