تلصص أم مَنجَم لعمل أدبي يشار إليه بجدارة؟ أدب السيرة الذاتية مزدهر في الغرب ومهمل في العالم العربي
أمينة عباس
تؤكد الإحصائيات أنّ كتب السيرة الذاتيّة هي الأكثر مبيعاً في كل من الولايات المتحدة وكندا وأوربا، في حين أن إهمال كتابة السيرة الذاتية في أدبنا هو العنوان الأبرز، مع عدم وجود إجماع من قِبل الدارسين على تعريف محدد لها، وإن كانت تحمل سمات الجنس الأدبي المستقل.
أكثر إغراء للقارئ
يشير الناقد أحمد علي هلال إلى أن السيرة الذاتية على مستوى المصطلح هي مفهوم حديث ارتباطاً بنشأته الغربية ونوعه الأدبي، إلا أن السيرة هي الأقدم في الموروث العربي، فالحديث عن أدبيتها سيشي بأنواع الكتابات التي تلبست بها مثل الاعترافات، الذكريات، المذكرات، اليوميات في ضوء استفادة السيرة الذاتية من غير نوع أدبي. وليست الرواية في هذا السياق إلا قوة المثال التي تشي بذلك التعالق أو التقنّع بالسيرة الذاتية التي عرفها ستاروبينسكي: “هي سيرة شخص يرويها بنفسه”. ومع ذلك، يرى هلال أنه ليس من تعريف ناجز للسيرة الذاتية بوصفها مفهوماً حديثاً ما زال النقاد والباحثون يتتبعون ما فيها من ثوابت وتحولات ونزعات لابدّ من إحصائها لبلوغ التعريف المنشود.
وبين هلال أن السيرة الذاتية عُرفت في الأدب العربي القديم بإرهاصات وملامح، لا سيما في ما كتبه ابن حزم في “طوق الحمامة” وأحمد فارس الشدياق في “الساق على الساق” فتاريخها – كما يذهب غير باحث – لم يُكتَب على نحو علمي وافٍ رغم الجهود اللافتة في هذا المجال، فنشأته ارتبطت بالغرب منذ اعترافات جان جاك روسو ومن قبله اعترافات القديس أوغستين أي قبل نحو أربعة عشر قرناً. وعليه فإن سيرورة هذا الجنس في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر لتكون السيرة الذاتية شكلاً من أشكال التعبير خاصاً بالثقافة الغربية، وسيبدو من يكتبها إما متأثراً بتلك الثقافة أو مقلداً لها، فندرة هذا الشكل التعبيري ستتعلق بمدى تطوره وبقدر الثقافة على أن تترجم الوعي بالحرية والاختلاف وتمثل منظومةَ القيم لأنه تتنازع في الأدب العربي إشكاليات ثقافية واجتماعية.
وأشار هلال إلى أنه ومنذ أن كتب محمد شكري روايته “الخبز الحافي”، طرحت السيرة الذاتية بمفهومها العربي الجديد العديد من الإشكاليات التي عكست غير مشكلة مع هذا النوع على مستوى التعبير والتفكير ومناهضة الأنساق المجتمعية ليكون السؤال: “هل يستطيع كاتب السيرة العربي أن يتجاوز تلك الأنساق ويكتب سيرته بالمعنى الدقيق للكلمة وتتنازعه مسألتان هما الصدق الفني والبعد الإنساني؟”. وإذا كان الجواب “لا”، فذلك يعني سلطة الرقيب الاجتماعي على الكاتب أكثر منها نزوعه لأن يقول كل شيء، فذروة الإشكاليات هنا ستتعلق بالمسألة الأخلاقية والفنية في آن معاً، ولهذه الأسباب يذهب كاتبُ السيرة الذاتية إلى استخدام الضمائر، لا سيما ضمير الغائب ليدفع قارئه إلى شيء من التوهم بشخصية أخرى، سواء التي تسرد أو التي تروي، أي إلى استخدام تقنية القناع، وأن ما كتبه طه حسين في “الأيام” بضمير الغائب بوصفه مجرد وجه أسلوبي من وجوه تصريف الكلام للحديث عن النفس، فجاء في “الأيام” راسماً لآفاق مغايرة، وحاملاً لمقاصد مختلفة تتعدى العجب والافتخار، أو التواضع والاحتقار، وليحول المشروع السير ذاتي المكتمل نصياً وواقعياً إلى مشروع السير ذاتي ينتظر الإنجاز فعليلاً وتاريخياً، كما يذهب الباحث شكري المبخوت في كتابه “السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين”. وعلى الأرجح أن السير الذاتية التي كتبها العقاد وأحمد أمين والمازني وسواهم ارتبطت بسياق تاريخي كان الأكثر نزوعاً إلى تحرير مفهوم السيرة الذاتية مما علق به، ليقترب أكثر من صفاء هذا الجنس. أما السيرة الذاتية اليوم فقد كان الشكل الفني فيها أكثر إخلاصاً لمفهوم السيرة الذاتية، وهو يتجسد في الرواية التي حررت هذا المفهوم أكثر، ليصبح معضداً بحوافزه الأدبية الجمالية والواقعية والتأليفية على الرغم مما يواجهه هذا الفن حتى الآن من إشكاليات فنية وفكرية.
كادت تودي به إلى التهلكة
السيرة الذاتية برأي الكاتب محمد الحفري تنتمي حتماً للأدب إذا كانت تحمل سماته وخصائصه وتوهجه، وحين تكون ممزوجة ومعجونة مع الأدب، ودون ذلك ستكون بعيدة عنه ومجرد حكايات عادية عن هذا الشخص أو ذاك, ولا ينكر الحفري أن هذا لا ينفي أهميتها، خاصة إذا كانت تخص شخصيات تسلمت مواقع حساسة أو تفوقت في مجال معين، فقد يأتي من يجد ضالته في هذه السيرة ليعيد لها الصياغة والبناء الفني ويخرجها في أبهى حلة، مبيناً أنه لا إجماع من قِبل الدارسين على تعريف محدد للسيرة الذاتية أو أنها جنس أدبي أم لا. ولا ضير في ذلك، حيث تم الاختلاف من قبل على أشياء شبيهة بهذه المسألة مثل قصيدة النثر والفارق بينها وبين العمودية والشعر الحر، والقصة والقصة القصيرة جداً والومضة، ولم ينته السجال حولها، حيث النص الجميل يثبت نفسه ويذهب ما تبقّى وكأنه غثاء السيل. وبالتالي، لا مشكلة إن حملت السيرة الذاتية سمات الجنس الأدبي المستقل بمقوماته وخصائصه التي قد تشكل قواعد مؤقتة ثم يتم تثبيتها والاشتغال عليها في القادمات من الأيام، مع أن الحفري لم يكن يوماً مقتنعاً بالقواعد التي تحد الأدب الذي وجِد كي يخترق ويحدث الفوارق بكتابة نص مغاير لما هو سائد ومألوف. ولعل النص المفتوح، برأيه، هو الحل الأمثل في هذا الزمن للخروج عن الشكلانية التي تقيدنا أحياناً بوثاق يشدنا نحوه ولا نخرج من ظله البارد في بعض الأحيان، موضحاً أن فن السيرة الذاتية يكاد يكون قليلاً في عالمنا العربي، في حين نجده مزدهراً في الغرب، والأسباب كثيرة، أهمها الفارق الكبير بين المجتمع العربي والمجتمع الأوربي الذي يتقبل الصدق والحقيقة، في حين أن المجتمع العربي لا يرضى بها، ويكنّ العداءَ لمن تفوه بها أو نطقها، إضافة إلى الجهات الرقابية التي قد تمنع بعضَ ما جاء في هذه السيرة أو تلك والمتمثلة بالرقابة الأشد فتكاً التي تتمثل بالأسرة والأصدقاء والأقارب والمجتمع، وهو ما عانى منه الحفري شخصياً، مؤكداً أنه بعد طباعة روايته الفائزة بجائزة الشارقة للرواية العربية التي تحمل عنوان “بين دمعتين”، وهي تحوي قليلاً من سيرة أسرته، تم تأويلها من قِبل البعض وتفسيرها كما يرى كل واحد منهم، وبالتالي توجيه التهم له ككاتب لهذه الرواية، وهذا ما آلَمه وعمَّق جروحه، إلا أن روح الشباب وجرأتها حينها جعلته لا يرتدع، فعاد مجدداً ليكتب بعضاً من تلك السيرة في رواية “العلم” الفائزة بجائزة المزرعة للرواية، وهذا العمل كاد يودي به إلى التهلكة حين اعتقد بعضُهم أن الحفري يشير في عمله إلى إحدى العائلات في منطقته، مؤكداً أنه يمتلك الكثير من هذه الذخائر التي يمكن أن تشكل أكثر من عمل يخص السيرة الذاتية ولا يجرؤ على فعل ذلك مستقبلاً نظراً للفارق بين الحرية التي يتمتع بها الآخر والضغط المجتمعي الذي نعاني منه. لذلك، فمشكلات السيرة الذاتية في أدبنا العربي كثيرة لأنهً ابن هذا المجتمع شاء ذلك أم رفض كتّابه، وبالتالي سينطوي في أغلب الحالات تحت عباءته الدينية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية بشكل عام، والتي تجعل الكاتبَ يحيد عن الحقيقة في سيرته الذاتية رغماً عنه، فيغيّر – على سبيل المثال – اسمَ الشخصية والمكان وبعض الأحداث ليخرج بسيرة مبتورة أوعمل أدبي صرف بعيداً عن السيرة. لذلك، فالمسألة – برأي الحفري – عويصة ومربكة بعيداً عن المصداقية التي نفتقدها، مبيناً أن سيرة اليوم تُختَلق عن سيرة “الأيام” لطه حسين وأحمد أمين والمازني وغيرهم، والسبب هو الفارق بين الكتابة في أيام نجيب محفوظ وحنا مينة وغيرهم الكثير من الأسماء الكبيرة، وبين الكتابة في زمننا الحالي، حيث تطورت الكتابة وأصبحت تمتلك تقنيات هائلة، محافظةً على رونق الحكاية وبهرجتها في متونها السردية..
ويختتم محمد الحفري كلامه منوهاً إلى أن القراء تستهويهم السير الذاتية، والفضول هو الدافع الأول، وزيادة المعرفة والاطلاع واكتساب الثقافة من خلال التجارب الحياتية التي مر بها أصحاب السيَر، وقد يكون الدافع الثاني هو التلصّص، أي معرفة إن كان في هذه السيَر ما يشبه الفضيحة ليلوكها المتلصص وينشرها بين الناس، في الوقت الذي يكون دافع المبدع البحث عن مَنجَم أو مادة أولية يمكن أن يكتب من وحيها عملاً يشار إليه بجدارة.
أحزان أدبية
ويرى الكاتب حسين عبدالكريم أن السيرة الذاتية هي أدب حين تكون اللغة صديقة راقية للوجدان، وهي جنون في اللغة والزمن، وهي تفقد انتماءها له حين تمتلئ بالتقليد والمواعظ، حيث هناك كتابات تجعل القارئ ضحلاً لا رؤى في بقائه ولا حياة، وأخرى هي نعيات وجدانية واستعراضات لغوية بائسة، مؤكداً أن حقيقة الإبداع وقيمته تكمن في خصوصية كل كتابة، وأن كل سيرة ذاتية تشبه صاحبها، وإذا لم تكن كذلك فلا معنى لها، وإذالم تشبه هموم القارئ فهي ليست أدباً، ويؤسفه أننا في الشرق نصادق التقاليد ونسقط في فخ العادات الأدبية ونهوى اللحاق بالغرب ونبدع في أذى إبداعنا، فنقتدي بالعتمة الفكرية ونواجه ضوء الأفكار التي في حياتنا. ومشكلات السيرة الذاتية في أدبنا هي خوفنا من ذواتنا وعدم ثقتنا بالتجديد الذي هو نبعنا ونسوق قطيع أفكارنا إلى ينابيع..
من هنا يبين عبد الكريم أن سيرنا اليوم يجب أن تختلف بأن نكتب جنوناً يليق بهمومنا المعاصرة، موضحاً أنه يكتب سيرته الذاتية كثيراً، وكل رواية كان فيها هموم ذاتية وعامة، ففي روايته “الطاحونة” سرد فيها الكثيرمن سيرته، وكذلك في روايته الأخيرة” شرس هذا الشتاء يا حبيبتي” التي حضرت فيها الصداقات الأدبية والإبداعية.
ويرى حسين عبد الكريم أن القصيدة أيضاً هي سيرة ذاتية لهيام ذاتي وشوق ذاتي تمتد أصابعه لإصغاء كل مشتاق وكل هائم، مؤكداً أن السيرة الذاتية تؤثر وتزرع أشواقاً عجيبة وتهز أشواق الكثيرين، وهي أحزان أدبية من النوع الأكيد والرائي، وجرح الكتابة ذاتي وعام، وهذه هي قيمة الكتابة.
أقرب إلى الإقناع
ويؤكد الكاتب محمد أحمد الطاهر أن السيرة الذاتية هي جزء لا يتجزأ من الأدب حين تبدو على شكل عمل روائي، وحين تركز على الزمان والمكان فهي تُعتَبَر شكلاً توثيقياً وليس من جنس الأدب، وهي دائماً تكون أقرب إلى الإقناع لأنها تعبّر عن الحقيقة التي عاشها الكاتب نفسه أو عاشها غيره، ونجد كثيراً من الكتّاب في العالم سلطوا الضوء على حياتهم الشخصية بطريقة الأنا أو الهو.. مثال: تولستوي، العقاد، نجيب محفوظ، حنا مينة، الطيب صالح، عبد السلام العجيلي، محمد الحفري، سهيل الذيب، الذين كتبوا أعمالاً خلَّدت سيَرهم بأكثر من طريقة وأسلوب أدبي، في حين أن هناك بعض الكتاب يشعرون بالخوف والرهبة من طرح سيرهم، لذلك يتجنبون طرحها.
والطاهر لا يجد غضاضة في كتابة السيرة الذاتية، ويعتبرها جرأة أدبية، مبيناً أن سير العمالقة مثل طه حسين والعقاد والمازني وأحمد أمين تختلف عن سيَر اليوم لأن الأدب العربي كان في أوج ازدهاره وتألقه، وبالتالي كانت الحياة التي يعيشها هؤلاء الكتّاب هي بحدّ ذاتها سيراً أدبية تستحق أن تُكتَب، لذلك كانت “الأيام” لطه حسين و”حديث الأربعاء” ملاحم حياتية ترجمها فيما بعد كتّابها.
ويرى الطاهر أن القارئ يبحث عن الجمالية والصدق في الكتابة، لذلك نجد أن الروايات التي تنتمي إلى جنس السيرة هي روايات لافتة وجاذبة وماتعة في تعابيرها لأن كتّابها يضخّون صدق مشاعرهم وتجاربهم بغية الوصول إلى نتاج أدبي متميز له أثر كبير في ترسيخ فكر وتجارب ومسيرة الكاتب بتفاصيلها، في حين أن القيمة الأدبية لها يحددها مضمونها كما في أي نص أدبي، وهذا ما يجده الطاهر ماثلاً الطاهر في السير التي كتبها محمد الحفري في روايته “بين دمعتين” وسهيل الذيب في رواية “الرياحين” والطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال” ونجيب محفوظ في “بين القصرين” وعبد السلام العجيلي في “قناديل اشبيلية”.