ذاكرة البياض
سلوى عباس
في صباح أيلولي من عام 1980، غادرت مدينتي التي احتضنت خطواتي الأولى في الحياة في زيارة إلى مدينة دمشق برفقة قريبتي د.منيرة محمد التي جمعتني بها صداقة ومودة منذ الصغر. كانت منيرة حينها تتابع دراستها في جامعة دمشق قسم الفلسفة، وكانت هي بوصلتي في تلك المدينة المترامية الأطراف، عرّفتني على الكثير من معالمها وتفاصيلها، وأنا مدينة لها بكل خطوة خطوتها في ذلك الوقت، حيث كنت لا أزال أعيش هواجس تلك الطفلة التي تنام وراء الحلم جاهلة في الحياة حقيقتها المخاتلة، زوادتي تعاليم أمي التي كانت تسربها لي عبر حكايات ما قبل النوم، بدءاً من حكاية ليلى والذئب الذي يتربص بي، وصولاً إلى حكاية الفتاة التي سيأتي يوم وتستبدل شرائط جدائلها الملونة بأزاهير الطفولة وعفوية لحظاتها بشرائط ملونة بألوان الحياة المختلفة، فقد مر الزمن وكبرت هذه الطفلة واختلفت الحياة بالنسبة لها، واستبدلت جواز سفرها الطفولي بآخر مليء بالآمال والطموحات، ومنذ اللحظة الأولى التي ترافقنا فيها، أنا ومنيرة، لم يتخلل علاقتنا أي زعل وكثيراً ما كنت أشكي لها عن قلقي وتعبي من عدم إكمال دراستي، فكانت تمازحني قائلة: “الفتاة الجميلة لا تخيفها الأيام”، ظناً منها أنها تخفف عني بعض التعب، حيث كانت تعتبره جواز سفري الأهم كما هو لأي فتاة في عمري.
كانت منيرة، كما كل الفتيات أيضاً، تحلم بشريك تتوجه أميراً على عرش قلبها، تبني معه أسرة بمستوى أمنياتها وطموحاتها وجزءاً من أحلامها التي رافقتها وكان لها ما تمنت، إذ لم يطل الزمن حتى جاءت إليّ تخبرني أنها التقت برفيق دربها الذي سكنت روحها إليه وشكلت معه أسرة جميلة وناجحة في الحياة، كما تابعت دراستها التي كانت هدفها الأول في الحياة، وأنا أكثر الناس اطلاعاً على تصميمها لتحقيق هدفها بالحصول على شهادة الدكتوراه، لتتبوأ مكانها في جامعة دمشق، أستاذة لها حضورها وتأثيرها بين زملائها وطلابها الذين كانت لهم أماً وصديقة ومرشدة، تدلهم على الطريق الصحيحح. بعد ذلك، أخذتنا الحياة في مساربها المتعرجة ولم نعد نلتقي، وكنا نترقب أخبار بعضنا بين حين وآخر، ليأتي الفضاء الأزرق ويعيد لنا تواصلنا.
حضرت هذه الذكريات في خاطري اليوم وأنا أعيش مرارة فقد صديقتي ورفيقة الأيام الجميلة، د. منيرة، التي لملمت أوراقها وذكرياتها ورحلت إلى عالم قد يكون أرحب وأكثر سلاماً وأماناً من عالمنا المليء بالقسوة والألم.. منيرة، تلك الإنسانة التي حملت بقلبها وروحها كل طيبة الريف ونقائه، كانت نبيلة ووفية لنفسها وأسرتها وزملائها وطلابها. لم تخذل يوماً أحداً إلا في رحيلها المفاجئ والمباغت، حيث، كما في كل مرة، حضر الموت بكل قسوته، ليتركنا موزعين بين وجع أرواحنا، وبين خطونا المتعثّر في الدروب، لا ندري كم من الأزمان ستحتمل قلوبنا هذا الحزن والألم على رحيل ما زلنا نعيشه مكسوري القلب. نسافر إلى الأبعد، إلى المدى المفتوح على الفقد الذي ما انفكّ ينثر رمادَه على أرواحنا، وصار هو الأقوى.
يبدو أنّ الحياة هكذا، تبعثرنا، تفتّت أجسادَنا وأمانينا، لا نعرف متى جمعتنا وشكّلتنا أهلاً وأصدقاء وأحبة، وكما جمعتنا تفرّقنا لنرى أنفسنا على مفترق الغياب، فمن يلّم هذه المشاعر التي أطبقت على الأفق، وهذه الاشتياقات التي تضيء السماء، ووسط مشاعر وأحاسيس الألم التي تعاند اللحظة، أقول لك ياأم عمار أربكني كثيراً أن يكون اتصالي الأول بأبي عمار لأعزيه بفقدك، فقد استعجلت الغياب لأن الحياة كانت تليق بك.. سلام لروحك الطيبة وأنت تعانقين بياض النقاء.