الولايات المتحدة.. تناقض بين العبارات وبين معناها الحقيقي
سمر سامي السمارة
صحيح أن العالم يحتفل سنوياً بيوم حقوق الإنسان في 10 كانون الأول إحياءً لذكرى اليوم الذي اعتمدَت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948، لكن التناقض بين العبارات ومعناها الحقيقي، أي الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان وما إلى ذلك، أصبح واحداً من سمات العالم الحديث، فالغرب، الذي أعطى لنفسه بشكل غير قانوني لقب “حامل لواء” حقوق الإنسان، ينتهك هذا اللقب عندما يتعلق الأمر بالدول الأخرى، ولا تزال يده ملطخة بدماء الشعوب البريئة الأخرى، ولعلّ الصراع المسلح الذي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي ضد روسيا دليل واضح لا يمكن دحضه على فساد سياسة الغرب في مراعاة “حقوق الإنسان”.
بعبارة أخرى، يشجّع الغرب الذي لا يتسامح في اتخاذ التدابير الأمنية في بلدانه، الفوضى، وانعدام الأمن في البلدان الأخرى، فعلى سبيل المثال، ينبغي على المرء مراعاة القرار السريع الذي اتخذته ألمانيا، التي اعتقلت مؤخراً 25 شخصاً بتهمة “محاولة الإطاحة بالحكومة”، لكن الآن وسائل الإعلام الغربية نفسها تكتب أن هذه المجموعة لم تشكل أي تهديد لأمن البلاد، وأن جهاز المخابرات لدولة أخرى هو من دبرها لإخافة المستشار أولاف شولتز.
وكما كان من قبل، فإن حملة واسعة النطاق للترويج لقتل الأشخاص الأبرياء المزعومين في مختلف دول العالم يتمّ تضخيمها يومياً على صفحات الصحافة الغربية، ولكن بمجرد حدوث ذلك بسبب خطأ الغرب، تصبح هذه المنافذ الإعلامية نفسها على الفور مدافعة عن “حقوق الإنسان”، وتتنافس مع بعضها البعض، وتتحدث بصوت عالٍ عن “الأساليب البربرية للحكم” في هذا البلد أو ذاك.
يزخر التاريخ المشترك على مدى الثلاث مائة سنة الماضية من الوجود الغربي بالجرائم الهمجية الواسعة النطاق ضد الإنسانية وحقوق الإنسان الأساسية، وإذا كانت الدول الغربية اليوم تمتلك الثروة والسلطة، فمن المؤكد أن أحد الأسباب الرئيسية هو نهب الشعوب الأخرى التي تمّ استعمارها حتى منتصف القرن العشرين. وعلى الرغم من أن الاستعمار يبدو وكأنه قد انتهى بأشكاله الماضية، إلا أن شكله وأساليبه الجديدة والحديثة لا تزال قائمة.
في عالم اليوم، يعطي المعسكر الغربي لأي بلد يقدم الولاء، الضوء الأخضر لارتكاب جرائمه دون عقاب، لكن إذا تعارض مسار هذا البلد مع المسار الغربي الحالي، يقوم الغرب على الفور ببدء إجراءاته العدوانية ضده، وجعل ذلك ذريعة لممارسة ضغوط سياسية واقتصادية إضافية.
الواقع، أن هذه هي النسخة الأمريكية سيئة السمعة من “حقوق الإنسان” التي تحاول الولايات المتحدة بوقاحة فرضها على العالم بأسره، لذا فقد وجدت دعوة الرئيس بوتين والإجراءات التي قام بها لتحويل العالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب دعماً كبيراً في جميع أنحاء العالم.
جدير بالذكر أن الممارسات الغربية ليست وليدة اليوم، بل إنها تعود لسنوات عديدة، عندما جدّدت بريطانيا العظمى خزينتها من خلال قتل واستعمار ونهب دول الشرق، وفي مقدمتها شبه القارة الهندية، لكن كل هذا، كما قيل آنذاك وكما يُقال الآن، تم بهدف “تربية الشعوب البربرية” وبذريعة إرساء “حقوق الإنسان” هناك.
في الحقيقة، عندما يتعلق الأمر بالاستعمار البريطاني للهند، كان لدى البريطانيين أجندة اقتصادية عديمة الرحمة، ففي ظل الحكم البريطاني، عانت الهند عدد لا يحصى من المجاعات، وفي 13 نيسان 1919، أطلقت القوات البريطانية النار على مئات الرجال والنساء والأطفال العزل في جاليا نوالا باغ، وهي حديقة محاطة بأسوار في أمريتسار، في أعقاب انتفاضة الهندوس الذين جردوا من ممتلكاتهم في المدينة الواقعة شمال الهند، وحينها ذكرت الإدارة البريطانية التي حكمت الهند في ذلك الوقت أن 379 حالة وفاة حدثت، بينما قال مقاتلون من الهند إن حوالي 1000 لقوا حتفهم.
بعد ذلك، انتقلت “عباءة الحماية” إلى الولايات المتحدة، التي تستخدم قوة الإعلام لتغطية وجهها الحقيقي بقناع “احترام حقوق الإنسان” وخداع الرأي العام في العالم، حيث يتحدثون عن حقوق الشعوب، في حين أن هذه الشعوب تشعر أكثر من أي وقت مضى بأكاذيبهم المكشوفة والتناقض الكبير لمواقفهم.
في هذا الصدد، نجدهم يتظاهرون بحماية حقوق الأقليات، النساء والأطفال، والمثليين، ومزدوجي الميل الجنسي وما إلى ذلك، لكنهم يرتكبون باستمرار وبانتظام جرائم ضد معظم الشعوب في جميع أنحاء العالم، وليس آخرها الأعمال الوحشية التي ارتكبتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق وسورية وليبيا وأفريقيا وآسيا والأمريكتين.
على الرغم من رغبة واشنطن الدائمة في الحديث عن حقوق الإنسان والتي تستغلها في الواقع للاعترافات السياسية، لكنها لا تنظر بنفسها بجدية إلى المرآة، لأنها لو فعلت لوجدت أن الجماعات العنصرية المنهجية -على الرغم من عقود من العمل لحركة الحقوق المدنية- تستمر في معاملة الأمريكيين الملونين كمواطنين من الدرجة الثانية. بالإضافة إلى إخفاق السلطات الأمريكية في سنّ وتنفيذ الرقابة والمساءلة للشرطة التي وعدت بها إدارة بايدن رداً على الاحتجاجات التي عمّت البلاد ضد عنف الشرطة في عام 2020، واتسمت بالاستخدام المفرط للقوة على نطاق واسع من قبل ضباط الشرطة. وتشير البيانات العامة المحدودة المتاحة من 2015 إلى 2021 إلى أن الأمريكيين الأفارقة قد تأثروا أكثر من غيرهم باستخدام الشرطة للقوة المميتة، ومع ذلك ظل برنامج الحكومة الفيدرالية لتتبع عدد هذه الوفيات سنوياً دون تنفيذ.
ليس من المستغرب بعد ذلك، أن تتعرض نساء الشعوب الأصلية لانتشار غير متناسب من العنف الجنسي، وافتقار في إمكانية الحصول على الرعاية بعد الاغتصاب. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال نساء الشعوب الأصلية يواجهن مستويات عالية من حالات الاختفاء والقتل. ومن الواضح، أن العدد الدقيق للنساء اللواتي يقعن ضحايا العنف أو الاختفاء غير معروف، لأن الإدارة الأمريكية لا تجمع البيانات، ولا تنسق بشكل صحيح مع السلطات القبلية، لهذا فالعنف ضد المرأة آخذ في الازدياد، كما أن وحشية الشرطة ضد الأقليات آخذة في الازدياد.
لقد فشل سجل حقوق الإنسان في الولايات المتحدة في ظل الإدارة الحالية لبايدن حتى الآن في تبني سياسة الهجرة واللجوء القائمة على حقوق الإنسان على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، أو تنفيذ أجندتها الخاصة بحقوق الإنسان محلياً. كما أنه في ظل إدارة بايدن، تواصل السلطات تقييد إمكانية الحصول على اللجوء بشكل كبير على الحدود الجنوبية، ما يلحق الضرر بشكل لا يمكن إصلاحه بآلاف الأشخاص، بمن فيهم الأطفال، الذين يسعون إلى الأمان من الاضطهاد أو غيره من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
من الواضح أن الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، ينتهج سياسة دموية وقذرة في محاولة لتحويل روسيا ودول أخرى في العالم إلى أداة لتحقيق أهدافها الجيوسياسية.، وبالتالي فإن المشكلة الحقوقية الرئيسية هي أن واضعي هذا البرنامج في الغرب أنفسهم، هم المخالفون الرئيسيون، وقد خلقوا فجوة عميقة بين ما يقال وما يحدث عملياً.
لقد أصبح هذا النفاق الذي يمارسه الغرب الآن أكثر وضوحاً، وشعوب العالم أصبحت أكثر وعياً من أي وقت مضى، ففي الممارسة العملية، ارتكبت الدول الأوروبية والولايات المتحدة حرفياً جميع أنواع الجرائم والفظائع في جميع أنحاء العالم.