من اقتصاد السمكة إلى الصنارة!
علي عبود
مهما قيل في أهمية الدعم، وبكونه ضرورة قصوى لتأمين بعض احتياجات ملايين السوريين، فإنه ليس حلاً جذرياً لأسر دخلها أقلّ بكثير من احتياجاتها الأساسية. كما أن التخلّي عن الدعم تدريجياً، كما تفعلها الحكومات المتعاقبة منذ عام 2008، لا يمكن وصفه إلّا بالكارثي مع انعدام البدائل الفعّالة والدائمة لزيادة دخل ملايين الأسر العاملة بأجر!
وإذا جاز لنا وصف الدعم بالسمكة التي تُمنح مجاناً لجائع تكفيه لوجبة واحدة، فإننا يمكننا وصف المشاريع التي توفر دخلاً دائماً للأسرة بالصنارة.
نعم، إذا أرادت الحكومة أن تساعد محدودي الدخل، فلا بأس أن تفعلها بدعمهم بمواد أساسية، ولكن عليها أن تعمل بالتوازي، على مساعدتهم بخلق مشاريع لهم (صنارة)، تزيد دخلهم وتحولهم من متلقّين للمساعدات إلى مساهمين بزيادة الإنتاج، بما يحقق الفائدة للاقتصاد وللمجتمع.
صحيح أن بعض الجهات الحكومية كوزارة الزراعة، تساعد في تنفيذ مشاريع لمساعدة الفلاحين، لكنها لا تزال محدودة، ولم تتحول المشاريع التي تزيد دخل الأسر الريفية إلى استراتيجية حكومية واضحة المعالم والأهداف. ولعلّ أهم أهداف أي استراتيجية تنموية ليس جعل الأسرة الريفية مكتفية ذاتياً من السلع الغذائية فقط، وإنما أيضاً دعمها بمستلزمات الإنتاج الصغير بما يحقق فائضاً عن حاجتها لبيعه لتأمين مستلزماتها الأخرى، وهذا التوجّه من اقتصاد السمكة إلى اقتصاد الصنارة لم يُدرج في أولويات أي حكومة منذ عام 2011، أي مع بدء تدهور الأوضاع المعيشية لملايين الأسر السورية.
من المهمّ تقديم المنح المجانية للأسر الريفية، من شتول وسماد بلدي وأسمدة عضوية وبذار قمح ووحدات لحصاد المياه وحشاشات أعلاف.. إلخ، لكن الأكثر أهمية أن يُقدّم الدعم لمشاريع دائمة مدرّة للإنتاج والدخل، وبما يُغني أصحابها عن أي مساعدات خلال فترة زمنية محدّدة، باستثناء مساعدة الجهات الحكومية بتسويقها أو بشرائها منهم مباشرة.
صحيح أن تقديم البذار المجانية من بعض منظمات المجتمع الأهلي، أو من هيئات الأمم المتحدة، يساعد الأسر الريفية في زراعة المحاصيل الصيفية والشتوية، لكنها تبقى مساعدات محدودة لعدد قليل من الأسر، وليست دائمة، في حين المطلوب استراتيجية حكومية دائمة تنفذ عبر خطط خمسية ترصد لها الاعتمادات، ويكون محورها وهدفها تحقيق الاكتفاء الذاتي لسكان الريف مع فائض لتوريده إلى الحضر، وهذا الهدف المتجسّد بالانتقال من اقتصاد السمكة إلى اقتصاد الصنارة، لم يكن بوارد أي من الحكومات المتعاقبة منذ عام 2011.. فلماذا؟
وما يُقال عن الريف يُكرّر أيضاً في الحضر، فقد آن الأوان لتحويله من مستهلك إلى منتج، وخاصة بعد تمكّن آلاف الأسر، وأبناء أرباب الحرف والمهن التقليدية من تأسيس مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر تناسب متطلبات العصر والحداثة، وقد تمكّن الكثير منهم من إحراز نجاحات ملفتة إلى حدّ أن منتجاتهم باتت منافسة لمثيلاتها المستوردة بالجودة والسعر!.
وبدلاً من أن يدور النقاش حول إيصال الدعم لمستحقيه، فليدر النقاش أيضاً وبالتوازي حول ضرورة دعم المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر لتتمكن آلاف الأسر السورية في كل مدينة من زيادة دخلها، والاستغناء نهائياً عن الدعم الذي بات رمزياً!.
ومن المستغرب عدم الاهتمام الحكومي بالمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، على الرغم من أهميتها القصوى والفعالة في تحريك عجلات الإنتاج على نطاق أفقي واسع جداً، فالحكومات المتعاقبة خلال العقود الماضية ولا تزال، منبهرة ومأخوذة بالمشاريع الضخمة التي لم تساعد ملايين السوريين بتحسين أوضاعهم المعيشية.
أليس مستغرباً أن “السورية للتجارة” لم تخصّص أي جناح في صالاتها لبيع منتجات المشاريع الصغيرة، كما أن وزارة الاقتصاد لم تساعد بإقامة معارض لها في الداخل أو الخارج، كما أن وزارة المالية غير مكترثة بتقديم القروض لأصحابها بصفر فائدة مثلاً.. إلخ.
الخلاصة: الانتقال من اقتصاد السمكة إلى اقتصاد الصنارة من خلال الدعم اللا محدود لمشاريع الأسر الريفية ولمشاريع الإنتاج الصغير والمتناهي الصغر، هو المدخل لتصنيع بدائل المستوردات والموفّر للقطع الأجنبي، ولكسر سيف الحصار والعقوبات، لكن الأمر يحتاج إلى استراتيجية، أو خطة خمسية لم تقتنع أي حكومة منذ عام 2012 بإنجازها وإقرارها حتى الآن!!.