رائحة الأزمنة
غالية خوجة
تتعتّق الأزمنة في الأمكنة ليترسّب التأريخ في الأبعاد المتعدّدة المتشاكلة مع الفضاءات الكونية والفراغية والباطنية والحضارية، ويتفتّح متماوجاً مع الجذور العريقة بذاكرتها الأولى وذاكراتها المتناسلة بين الحجر والبشر، لتصبح صبغية وراثية على مرّ الأزمنة والأجيال، وتتوالد حاملة المستقبل بين الشمس والنهار والنجوم، فتغدو سماؤها خاصة بأرضها، ولها لغتها التي لا يفقهها جميع البشر، لكنها الأليفة لكائناتها وحجارتها وصخورها وشواطئها وترابها وفصولها وناسها وزائريها والمقيمين فيها والمغتربين عنها لكنهم في مآقيها.
هذا ما تنطق به وأكثر رائحة مدننا القديمة في سوريتنا الحبيبة، بشوارعها وأحيائها وأزقتها وجاداتها وحجارتها العريقة وأشجارها العتيقة وفنون عمارتها المتداخلة مع فنون حياة الناس التي تحبّ الحياة بجمالياتها وتحتمل آلامها متعلّمة من وطنها الصبر على الإيذاء ومكافحته ومحاربة ظلمات الوعي ليظلّ الجميع منتصراً بالجميع مع هذا الوطن المشرق بالمحبة والسلام والحضارة.
وللمتجول بين رائحة هذه الحياة وآثارها وتراثها المادي واللا مادي أن يصبح جزءاً منها كما تصبح هي كله، وكأنها رائحة لا تنتمي إلاّ إلى الأعالي وكلماته الطهور، وأفعاله الناصعة المتجذرة مع الشجر والبشر، فتشعر بأن حاسة الشم هي ذاتها حاسة البصر بطريقة خيميائية عرفانية عارفة، فتتداخل الحواس، وتتبادل وظائفها، وتتداخل ذاكرة الشخص مع ذاكرة النص والتي هي هنا ذاكرة المكان والزمان.
تنبعثُ الروائح المكانية الخاصة وكأنها عقارب لساعة خرافية تعود إلى الوراء مع الأعشاب النابتة بتجدّد من بين الشقوق والصخور، ومع الأحداث التي تخرج لتوّها من الأبنية المعمارية المعتبرة من التراث الإنساني العالمي، فنسمع صهيل خيول سيف الدولة، ونشمّ رائحة غبار المعارك، وتتفتّح إرادة الشهداء وروداً وغيوماً وشموساً برّاقة فوق القلعة، بينما تتدلّى القصائد مع الأشعة المطلة من فتحات سقوف أسواق المدينة القديمة وهي تستعيد أنفاسها مع عملية الترميم وإعادة البناء، كما تلمع أطياف الأهالي الذين مرّوا في هذه المناطق منذ القِدَم، ونسمع أصوات خطواتهم بين الخانات المختلفة ومنها خان الوزير وخان الشونة، وتعبق الأجواء برائحة التوابل المختلفة في أسواق المدينة، فتظهر مشاهد التجارة العالمية على طريق الحرير، وتبدو وكأنها تحدث الآن، فنرى في ذاكرة الرائحة كيف يتحرك التّجار العرب والأجانب، ويتبادلون السلع المختلفة، ويتمشون بين الأزقة والجادات العريقة المبلّطة بالحجارة البازلتية، ويتأملون بانبهار فنيات الهندسة المعمارية للأبنية من بيوت وأقواس وأبواب وقناطر وأكشاك، وهي تعلن عن رائحة حجارتها الحلبية وزخارفها وزجاجها المعشّق، ونباتاتها المعرّشة على جدران ونوافذ وأسطح وأبواب البيوت القديمة.
في تلك الأسواق، ما زالت أصوات الباعة ترنّ، وألوان أقمشتهم المميزة بحريرها وزركشاتها وخيوطها المذهّبة والفضية تلمع مثل نهار يضمّ في سبّحته نهارات 7000 سنة مضت، وكلما تحرّك نهارٌ على نهارٍ أضاءت الرائحة الأزمنة والأمكنة، وصارت خلفيّة موسيقية لشريط ما زال يعبر الحياة بتحولاتها، وشخوصها المتغيّرة، فـ”يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحا كعاشق خطّ في الهوى سطراً ومحا/ بشارة الخوري ـ الأخطل الصغير”.
ما زالت رائحة الذكريات تموج في النسوغ والنفوس والمدارس التي كان يقصدها طلاّب العلم والمعرفة والأدب والموسيقا والفنون من كافة أنحاء العالم، فلا يتوقف الشريط المستمر عند مدرسة الأحمدية والكلتاوية ولا عند مكتبة الوقف والجوامع ومنها الجامع الأموي الكبير، لأن هذه الأماكن كانت لعلوم الدين والدنيا، ومناراتها تضيء العقول قبل الوقت.
ما زالت موسيقا الرائحة تتحرك بشكل لولبي، وما إن نصغي حتى نسمع المتنبي يردّد: “لو أنصف العرب الأحرار نهضتهم، لشيّدوا لكِ في ساحاتها النصبا”.