كيلا تأسرنا تلك السرديّات المضادة
د. عبد اللطيف عمران
لا تزال تطالعنا كل يوم أبحاث ومقالات ومؤلفات ـ عدا عن صنوف السوشيال ميديا تعمل على تزييف الوعي ، والواقع ، والحقيقة أمام الأجيال الطالعة لتستهدفنا أفراداً ومجتمعاً، شعباً وجيشاً وقيادة، ولا يمكن أن ننكر قدرة وتأثير ما يطالعنا من هذا القبيل في النفوس وفي الذاكرة الجمعية نظراً إلى ما يتوافر لهذه السرديات من تقنيات ودعم مالي وتيسير النشر والتعميم، هذا من جهة، ومن جهة ثانية ـ وهو الأهم ـ ضآلة الردود والتفنيد المسبق، وعدم القيام بسردية فاعلة تواجه السرديات المضادة في سياق ردود استباقية، بل ردود فعل متأخرة بعد أن تكون هذه السرديات المضادة فعلت فعلتها المؤذية.
لا شكّ، هناك من يقول: ومن أين لنا هذه الوسائل والتقنيات والأموال اللازمة لنجاح هذه المواجهة؟. وللأسف هذا القول مردود عليه بردود تفضي إلى تأكيد قصور العامل الذاتي والمؤسساتي في بعض الوزارات والأحزاب والمنظمات والنقابات المعنية والهيئات الدبلوماسية، وهي كثيرة وحاضرة لكن حضورها، لم يكن ضامناً لفكّ أسر عقول الناشئة، وحتى الكبار من أثر هذه السرديات المضادة التي تحظى بالتناقل والنشر والتعميم والتوزيع عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فنوظّف في هذا السبيل منصّات النشر والتأليف والتوزيع والميديا والدراما والفنون والآداب والأبحاث الأكاديمية في التاريخ الحديث والمعاصر، والعلوم الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية… الخ من قبل طلبة الماجستير والدكتوراه ، والأكاديميين الذين يقدمون أبحاثاً للترفيع من مدرس إلى أستاذ مساعد، فأستاذ. مع عدم نكران العدد القليل وغير الكافي من المبادرات الفردية والمؤسّساتية تجاه هذا الاستهداف العارم الزائف والمضلل والمدعّم من قوى ومؤسسات كبرى معادية……
نحن بعد أن كدنا ننجح في فضح مسار التضليل الإعلامي ، نقف اليوم أمام انتقال من الإعلام إلى التأليف والتدوين ، أي انتقل بنا أعداؤنا من التضليل الإعلامي إلى ( التضليل المعرفي ) فقدّموا وسيقدمون بالخيانة والعمالة مؤلفات مخدّمة ومدعّمة بالحياد السلبي ، وبالارتزاق ، في عواصم الخليج والغرب وكذلك سرديات – لا شك مخادعة ومأجورة – منها أبحاث في مراكز أبحاث ، ومنها مقالات تنشر في صحف أو مجلات ، ومنها كتب سرعان ما تُترجم وتُسوّق وتُنشر وتُوزّع ، وجميعها يمكن محاصرتها ، وإنقاذ الأجيال من مخاطرها ، ودحضها ، لكن ليس بذكرها فرادى أو التنويه إليها ، وإنما باستهدافها كظاهرة عامة من خلال منهجية علمية ، ووثائق وشهادات حية لا يملكها أحد غيرنا أو مثلنا ، وبسرديات وطنيّة وعروبيّة أخلاقيّة وإنسانيّة ، بعيدة عن الانفعال والعواطف والتسرّع ، وذات خطط وأهداف وبرامج موزعة حسب اهتمامات أو مستويات ، وقدرات ، ومسؤوليات الأفراد والمؤسسات ، وهذا يأتي في سبيل التحرّر من أسر سرديات ( التضليل المعرفي ) ، بعد أن أثّر ما أثّر التضليل الإعلامي أسوأ تأثير في هذه المنطقة من العالم ، وبعد أن تمكنّا – متأخرين – من تفنيد غير قليل من تزوير واستثمار الوثائق والشهادات الملفقة والمبتورة والمجيّرة مسبقاً .
فبدون سرديّتنا المعرفيّة الوطنيّة والعروبيّة والإسلاميّّة المنشودة والمنتظرة ، السردية القائمة على المنهجية والعقلانية، وأصول البحث العلمي ، وأسس نظريّة المعرفة ، والعودة إلى مثاقفة الصلة بين الوعي المطابق والإيديولوجيا ، والتي تقنع الأجيال الطالعة إلى الحياة والأسيرة لا شك أمام المعطيات المتجدّدة والمستدامة للتكنولوجيا الرقمية، بدون هذا سنقف حيارى أمام إشكالات سؤال الوعي والهوية والمعرفة والانتماء، وحين نحقق هذا ، ونفلح في الإجابة عن هذه الأسئلة نكون ربحنا الحرب علينا، وتكون (فلتت الصيدة)، كما أسلف المدعو ابن جاسم معترفاً بالمؤامرة.
وبدون هذا لا ننجح في تفنيد، ودحض، وتكذيب، وتهافت تلك السرديات المأجورة التي وفّر لها المثقفون والكتّاب التكنوقراط الذين استأجرهم مؤقتاً عملاء المشروع الصهيو أمريكي – الرجعي العربي، ووصفهم كذباً بـ: (المستنيرين !؟). ووزّعهم في حواضر البترودولار المتآمرة على حقوقنا وقضايانا ومصيرنا، فغابت أمام سردياتهم الشريرة المؤلفات القيّمة التي كنا نحظى بها في القرن الماضي والتي تدعم الأمن القومي العربي والمشروع والفكر القومي العروبي في عواصم التنوير العربي في دمشق وبيروت والقاهرة وبغداد والجزائر وتونس والدار البيضاء، غياباً ليس من فراغ ولا بدون أسباب وأهداف واستهداف… وصولاً إلى ما أسماه الكتاب المرتزقة ( المناخ الثوري العربي) بنتائجه الهدّامة المؤسفة والمخزية أيضاً.
إنها سرديات تقوم بعد التدقيق والمقارنة، ولاشك، على خلل منهجي ، وحياد أعمى منافٍ للعلمية والموضوعية والمصداقية ، وعلى تحريف الوثائق وتجييرها، تفوح منها رائحة الدم والبترودولار التي تزكم الأنوف، وتدنس الأوراق والفكر والعقلانية والوعي والضمير والأخلاق والهوية ، لتغدو معروضاً رخيصاً في سوق النخاسة وجهاد النكاح و: (تعا تفرج تعا شوف) وترفّعاً وأخلاقاً وقيماً لن نذكر عنوانَ واحد منها.
إن العمالة للغرب، فعدوّ جدك يودّك، ليست تنويراً، ولا ليبراليةً، ولا تقدّماً. كما أن التطاول على الشعب والجيش والقيادة وهدم المؤسسات والرموز الوطنية ليست حريةً ولا ألمعيّة، بل ميدان فضل زائف وسباق رخيص للسرد والتأليف والتزييف، إنها عمالة وارتزاق مرحلي ينتهي بأصحابه إلى مزابل التاريخ.
ففي الغرب وغيره مثقفون وبرلمانيون ودبلوماسيون وإعلاميون ووزراء سابقون كُثر قدّموا سرديات ومقابلات ومؤلّفات تدحض بعلمية ومصداقية هذه السرديات المضادة ، وهؤلاء ليسوا إيديولوجيين، ولم تغب عنهم الوثائق والأدلة والبراهين والتحليل العميق والمنهجية العلمية والمعرفية منهم على سبيل المثال لا الحصر الدبلوماسي والمفكر والمستشرق والمؤلف الفرنسي ميشيل رامبو في كتابيه : (عاصفة على الشرق الأوسط الكبير) و (حروب سورية – Les guerres de Syrie ) بفتح الياء فلا تكون للنسبة ما يعني الحروب في سورية، والجدير بالذكر أن ترجمة الكتابين نهضت بها الأستاذة الدكتورة لبانة مشوح وزيرة الثقافة. فيُرى في الأول منهما ما يؤكد وجود مؤامرة مسبقة ومستدامة، ويُرى في الثاني : (إن الحروب في سورية لها عدة وجوه أغلبها لم يُتطرق إليه بعد، ويمكن أن نحصي منها 15 حرباً، شارك فيها 120 بلداً وحكومات وجيوش وعملاء خاصون وعصابات . . إن الرآي العام في الغرب القائم على القولبة والتعبئة الموجهة قد قبِل مستسلماً الرواية المفصلة الجاهزة … فقد كانت سورية بلداً حديثاً ومنفتحاً لا يرزح تحت أي ديون خارجية لديه اكتفاء ذاتي، والخدمات فيه مجانية… فما الذي حدث إذن لسورية؟!!)، وهنا إن بعض الإجابة يُستنبط من دوافع مؤلفي تلك السرديات المضادة التي لا شك أن الأستاذ رامبو ـ ومثله كثيرون ـ اطلع عليها وأدرك تهافتها وبطلانها فقام بـ (كيلا تأسرنا) .. ونحن علينا الباقي، مع الأمل أن لايطول الانتظار.