اتكاءات روحية
سلوى عباس
توقف عدُّ السنين.. نحن نعدُّ أياماً، وبعضنا أسابيع، وآخرون يعدّون أشهراً.. يقصر العدُّ كلما صغرت الطموحات، وكلما خبا جنون التفاؤل، وعندما نتيقن أن عداد الحياة مراحل وإنجازات، ونبضاً يخالف مقاييس الزمن، وأنّ السنة كروية، نبحثُ بين الناس عن نسخة مطابقة لمن أحببنا أو أعجبنا أو فُتِنّا به، ثم لم تمنحنا الأقدار ما رغبنا، وكأننا نفتش عن المستحيل، فالوجوه لن تتطابق، والسلوك لن يتطابق، واللهفة لن تتطابق، لأن الزمن يتشابه ولا يتطابق، ولأن الإنسان نسخة وشخصية فريدة لا تتكرّر، فلنوقف هذا العبث ونعيش الجديد وما كان سيبقى بكل تفاصيله جميلاً، لن نستنسخ الحكايات والأرواح والمشاعر في بصمة أخرى على قلب آخر، فالحياة لغز مغلق على أسراره، والانتظار حالة يعيشها كلّ إنسان بطريقته والغاية التي ينشدها من انتظاره في مكان مستباح وفاقد للخصوصية، لا يمكن فيه أن يكون الانتظار إلا حالة هروب من واقع مهزوم وأرواح موجوعة تنشدُ الأمل بتحقق أحلامها، فكم نحتاج من الإحباطات لندرك القليل عن بديهيات الحياة، وكم ينبغي أن نخوض من التجارب حتى لو وصلت بنا إلى حافة الموت، وحينها فقط ندرك أننا لم نزل أحياء، وفي لحظة من تعب اللهاث نركن إلى أرواحنا نتلمس وهن قلوبنا التي أضناها الركض، ثم نقضي وقتاً طويلاً من الخيبة قبل أن نلتقط نفسنا الأول في نهاية يومنا، فنلوذ إلى هدأة ليلنا نرسم آفاق يوم جديد، نرتّب فيه جدول احتياجاتنا، عسى أن نوفق في تأمينها.
هكذا.. تمرّ أيامنا لنقف على عتبة العمر منهكين، ومع ذلك نعود ونبدأ من جديد لعلّ حلماً آخر يرتسم في أفق آخر كان غائباً عنا، فالحياة قطار يسافر الناس فيه وكلّ ينزل في محطة عساه يلقى أحلامه الهاربة من ذاته ويستبشر بأمل تحققها، فهل لانتظارنا من حلم عسانا نحققه.. هذا السؤال المرّ يجرّ وراءه الكثير من الأسئلة التي تحتاج لإجابات تفسّرها وتوضحها، ليبقى الناس، ونبقى نحن معهم، على قيد أمل أن تهبّ رياح على نبتة الروح المتوهجة في محاولة عاصفة لاستلاب تلك الحياة، وتتفجر الشكوى أنيناً مكبوتاً بأن هناك شيئاً عزيزاً يتسرب من بين شراييننا نحاول الإمساك به، قد نستطيع وقد لا نستطيع.. إنها المحبة التي يحولها إيقاع الحياة السريع إلى كائن يكاد ينزوي جوعاً، إنها المشاعر التي تجعل للعيش مذاقاً لاذعاً وحميماً، والتي بدونها لن نستطيع الحياة، فالمشاعر المتبادلة والحاجات والمواقف الصغيرة في حياتنا كالكلمة الرقيقة واللمسة الحانية التي تعتبر شرياناً حقيقياً للحياة أخذت تتوارى بفعل الحرب والدمار وطغيان العلاقات المادية والتقادم، وكأن الزمن هو المقياس الحياتي الأصدق للعلاقات الإنسانية، فأيامنا بحاجة إلى زيادة مساحة الحب تجاه الآخرين وترجمتها إلى سلوكيات فاعلة واهتمام وجداني صادق، وفي قفرة العمر هذه مازلنا بحاجة إلى اتكاءات روحية ومشاعر متجذرة لا إلى أكوام ومستوردات مزيفة.. إننا بحاجة إلى إشراقة شمس حقيقية تنير عتمة أيامنا وتحصننا، ونتمسّك بالحياة كما تلك الورقة التي تضمّنت عبارات الحب وقاومت جنون الحرب في انتظار كاتبها الذي أرهقت روحه رؤيتها وقد اعتلاها غبار الخراب الذي لم يستطع أن يمحو كلماتها ولا يلغي معانيها التي تقول: “لا رغبة لي سوى أن أحبك.. ولا أرى في عينيك إلا ما أحبه منك.. أفتش عنك في يديّ المفتوحتين عبر نفسي.. ولا أعرف لشدة ما أحبك.. أينا الغائب”؟