دراساتصحيفة البعث

حكومة ماكرون على المحك.. الاضرابات تشل الحياة اليومية

هيفاء علي

احتجاجاً على تعديل نظام التقاعد في فرنسا، دخل الإضراب العام حيز التنفيذ بدعوة من جميع النقابات العمالية ليشمل معظم القطاعات الحيوية في البلاد، أبرزها النقل والملاحة الجوية والتعليم والصحة. وستشهد البلاد مظاهرات من المتوقع أن يشارك فيها بين 550 ألف إلى 750 ألف متظاهر، مع توقف القطارات وإغلاق المدارس، احتجاجاً على إصلاح نظام التقاعد الذي يراهن الرئيس إيمانويل ماكرون مستقبله السياسي عليه في بلد منقسم.

ولأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات، تتوحد النقابات العمالية في فرنسا للمشاركة في يوم احتجاجي كبير بإضرابات ومظاهرات عبر كامل التراب الوطن، حيث يصطدم المشروع وبنده الرئيسي المتمثل في رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً بدلاً من 62 حالياً بجبهة نقابية موحدة ورفض شعبي واسع.

على الصعيد السياسي، فإن الرهان كبير بالنسبة لحكومة لا تتمتع إلا بأغلبية نسبية في الجمعية الوطنية، إذ يعارض كل من اليسار واليمين المتطرف الإصلاح، ووحدها المعارضة اليمينية الكلاسيكية تقترح تسوية محتملة. وقد هيأت السلطات إجراءات أمنية واسعة بأكثر من 10 آلاف شرطي ودركي في باريس لضمان الأمن خلال التظاهرات، بحسب وزارة الداخلية التي تتوقع أن يلجأ المتظاهرون “إلى العنف”. ودعت الحكومة إلى ألا يؤدي التحرك إلى “تعطيل” البلاد، وأعربت عن الأمل في ألا يستمر طويلاً. كما طلبت هيئة الطيران المدني من شركات الطيران إلغاء خُمس الرحلات من مطار باريس-أورلي، بسبب إضراب المراقبين الجويين. وفي السكك الحديد، تتوقع شركة “أس أن سي أف” الوطنية “اضطرابات كبيرة” مع تسيير ثلث القطارات السريعة أو حتى خُمس القطارات السريعة وفقاً للخطوط، ومعدل قطار إقليمي واحد من عشرة. وكانت فرنسا قد شهدت مثل هذا الاضراب في الشتاء الماضي ضد مشروع إصلاح المعاشات التقاعدية.

كما تشهد البلاد اضراباً مفتوحاً في مصاف تابعة لمجموعة “توتال انيرجيز” منذ 4 أسابيع احتجاجاً على تفاقم أزمة الوقود في فرنسا، حيث اختارت الحركة الاجتماعية الفرنسية، وقوامها الحركة العمّالية على وجه الخصوص، زيادة الضغط على حكومة إيمانويل ماكرون، مع تنفيذ نقابات عدّة وحركات طلابية، منتصف الأسبوع المنصرم اضراباً عن العمل، للمطالبة برفع الأجور، ما أحدث شللاً كبيراً في مرافق حيوية عدة.

وبحسب مراقبين فرنسيين، فإن هذا الاضراب يعدّ أول تحدٍ اجتماعي وعمّالي واسع النطاق يواجه ولاية ماكرون الثانية، بعد إعادة انتخابه رئيساً في نيسان الماضي. ويدخل ذلك في إطار السجال المفتوح بين الرئيس عن حزب “النهضة” الوسطي، وتحالفه الرئاسي والبرلماني الضيّق، وبين الحركة العمّالية، وتحديداً الاتحاد العام للعمّال، أو الكونفدرالية العامة للشغل “سي جي تي”، لاسيما بعد الاستدعاءات المتواصلة من قبل الحكومة للمُضربين، ومطالبتهم بالعودة إلى العمل. ويستند ماكرون في الاستدعاءات، إلى نسبة تأييد شعبية عالية لخطوته هذه، رفضاً لتعطل البلاد، بعد مشاهد الطوابير الطويلة لسيارات المواطنين أمام محطات الوقود، منذ أسابيع، والتي تشهدها مناطق عدة من فرنسا.

من جهتها، تستند الحركة العمّالية المُطالبة برفع أجورها، إلى حقّ التظاهر والاعتراض والإضراب، الذي يتمتع بقدسية استثنائية في فرنسا، فيما يشكّل أي إضراب وتحرك مطلبي تنفذه النقابات العمّالية الكبرى، مصدر قلق دائم لحكومات البلاد المتعاقبة.

ويسعى اليسار الفرنسي إلى الاستثمار في الأزمة، لاسيما بالنسبة لزعيم اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون فيما يرى متابعون أن الأخير لا يزال يأمل بأن يدفع أي تفاقم للحراك، الرئيس الفرنسي، للدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، في ظلّ الأكثرية الضئيلة التي يملكها “النهضة” وحلفاؤه في البرلمان. وجاء يوم التعبئة العمّالي في سياقٍ أصبح قابلاً للاشتعال بسبب الإضراب في مصافي التكرير، الذي عطّل بشكل كبير توزيع الوقود في جميع أنحاء البلاد منذ حوالي أسبوعين، خصوصاً في الشمال والوسط ومنطقة باريس.

في المقابل، دعا الأمين العام للاتحاد العام للعمّال فيليب مارتينيز، الحكومة إلى “الجلوس حول الطاولة” مع النقابات لـ “مناقشة رفع الحد الأدنى للأجور”. كذلك، أكد الأمين العام لنقابة “القوة العاملة” فريديريك سوييو، الذي شارك أيضاً في يوم الإضراب، أن “إجبار الموظفين على العمل بأمر رسمي غير مقبول، وليس الحلّ الصحيح أبداً”. ومن الأسباب التي تقف وراء غضب واستياء ملايين الموظفين هو التضخّم الذي يؤثر على القوة الشرائية، والتشديد المقبل لقواعد إعانات البطالة، وإصلاح المعاشات التقاعدية المتوقع في نهاية العام الحالي.

وتظهر عواقب الإضراب في مصافي “توتال إنيرجيز” الفرنسية، في العديد من القطاعات بالبلاد صعوبات في الوصول إلى العمل، وقلق في المناطق الريفية في خضم موسم الحصاد، والخوف من تعطيل المغادرين في إجازات وإلغاء الحجوزات، مع تواصل مشاهد طوابير الانتظار أمام محطات الوقود، والتي تزيد من معاناة الفرنسيين، بالإضافة إلى الغلاء المتفاقم الذي يراكمه استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا. وحتى اللحظة، تحاول حكومة ماكرون، أخذ مسافة من إضراب عمّال “توتال إنيرجيز”، وتصوّر المسألة على أنها أزمة خاصة بين الشركة وموظفيها.

ويرى مراقبون أن هذا الموقف نابعٌ من محاولة الحكومة الفرنسية، ومن خلفها الإليزيه، تجنب الذهاب إلى “سجال وطني” أو “طاولة حوار وطني” لمناقشة مسألة رفع الحدّ الأدنى للأجور. وترى حكومة ماكرون، أن أي رفع للأجور في الوقت الحالي، سيقود حتماً إلى ارتفاع نسبة التضخم، والأسعار. كما تخشى الحكومة الفرنسية، أن يؤدي رفع الحدّ الأدنى للأجور إلى الإضرار بالشركات والمؤسسات الصغيرة في البلاد، والتي تكافح أصلاً في ظلّ الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومنها المصانع الفرنسية الصغيرة أو المتوسطة الحجم والتي تضررت كثيراً بسبب ارتفاع تكلفة المحروقات.

وتأتي الإضرابات وسط أجواء سياسية متوترة، إذ تستعد الحكومة الفرنسية لإقرار ميزانية 2023 باستخدام صلاحيات دستورية خاصة (قانون 49.3)، تمكنها من اجتياز التصويت على الموازنة في البرلمان. ومع تصاعد التوتر في ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، امتدت الإضرابات في فرنسا بالفعل إلى أجزاء أخرى من قطاع الطاقة، ومنها شركة الطاقة النووية العملاقة “إلكتريستي دو فرانس”، حيث ستتأخر أعمال الصيانة الضرورية لإمدادات الطاقة في أوروبا.

وتضع جميع هذه التحديات حكومة ماكرون، بقيادة إليزابيث بورن، بموقف حرج، وأمام الأخذ سريعاً بزمام المبادرة، في ظلّ تصلب نقابات العمل وتمسكها بموقفها. ويأتي ذلك، فيما تحاول حركة ميلانشون، وضع الأزمة في إطار أزمة ثلاثية: مطلبية اجتماعية، وبيئية، ودستورية. من جهتها، تواصل حكومة بورن اتخاذ موقف دفاعي، أو “محايد” بأقل تعبير، لاسيما مع دعوتها الأحد الماضي “جميع المؤسسات القادرة إلى زيادة الأجور.