دراساتصحيفة البعث

إحياء الاستعمار الجديد في أفريقيا

سمر سامي السمارة

في العام المنصرم، تزايد انتقاد الدول الغربية بشكل مطرد في كافة أصقاع الأرض، وخاصة مع عدم استعدادها لحلّ الأزمات التي خلقتها في الشرق الأوسط، أو التوصل إلى اتفاق بشأن الملف النووي مع إيران، فضلاً عن أزمة الطاقة والأزمة المالية والاقتصادية العامة التي تسبّبت فيها العقوبات التي فرضتها على روسيا.

كان رفض معظم دول العالم فرض عقوبات على روسيا بعد إطلاقها عمليتها العسكرية الخاصة ضد نظام كييف، واعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة في 30 كانون الأول الماضي، قراراً يطلب إلى محكمة العدل الدولية إصدار قرار بشأن آثار انتهاك الاحتلال الإسرائيلي المستمر بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، هو ردّ الفعل الطبيعي على مثل هذه السياسة اللا إنسانية والعلنية التي يمارسها الغرب.

وتجدر الإشارة إلى أن دول القارة الأفريقية اتخذت الموقف الأكثر فاعلية في “التخلص من الغرب”، ما يدلّ على معارضتها لمحاولات الغرب العودة إلى سياسة الاستعمار الجديد. وكان أحد العوامل المهمة وراء اتخاذ الدول الأفريقية لمثل هذا الموقف، معارضة استمرار القوى الاستعمارية الغربية السابقة التي تتبنى سياسة نهب الثروات الطبيعية والوطنية للقارة السوداء، وخاصة موارد الطاقة، بعد رفض الاتحاد الأوروبي، بضغط من واشنطن، للغاز والنفط الروسي. بناءً على ذلك، حاول الاتحاد الأوروبي الذي لجأ لذرائع مختلفة، إجبار نيجيريا في  شهر نيسان الماضي، زيادة إنتاج الغاز وإعادة توجيهه إلى سوق الغاز الأوروبية.

ورداً على ذلك، قال الرئيس النيجيري إن أوروبا تسعى إلى الاستيلاء على كافة المواد الهيدروكربونية المنتجة من أفريقيا تقريباً وترك القارة صفر اليدين. أما وزير النفط النيجيري فقال إن شركة النفط الوطنية النيجيرية كانت تعمل بأقصى طاقتها، وأن زيادة إنتاج الطاقة في الدول الأفريقية لم يكن ممكناً إلا بعد بضعة أعوام، أي بعد أن يستثمر الغرب مليارات الدولارات في شكل استثمارات في تطوير ودائع جديدة.

أما بالنسبة للشركات الغربية فهي ليست فقط في عجلة من أمرها للاستثمار في أفريقيا، ولكنها من خلال الهياكل المالية الدولية للولايات المتحدة وأوروبا تهدّد بقطع التمويل عن الدول الأفريقية، ووقف منح قروض لها إذا لم تدعم المطالبات للاستثمار في بناء مواقع “الطاقة الخضراء” التي يفرضها الغرب.

وبحسب الإحصاءات الرسمية، واستنتاجات العديد من الخبراء، فإن خسائر الدول الأفريقية الناتجة عن عمل الشركات الغربية تتجاوز 192 مليار دولار سنوياً، حيث تتسبّب شركات النفط والغاز الغربية، التي تحصل على معظم أرباح بيع الموارد الأفريقية، في إحداث أضرار بصفة خاصة للبلدان الأفريقية.

ومن الجدير بالذكر، أن تدفق الاستثمارات الغربية السنوية إلى البلدان الأفريقية هو أقل بكثير من “المساعدة التضامنية التي تقدّمها لنظام كييف” في مواجهته المسلحة مع روسيا. وبالتالي، وبحسب تقارير وسائل الإعلام الألمانية، خصّص الاتحاد الأوروبي والعديد من الدول الأعضاء مليار يورو للدول الأفريقية في إطار المبادرة للتغلب على آثار تغير المناخ، بينما خصّص ميزانية لعام 2023 تصل إلى 14.7 مليار يورو لانتقال الطاقة بشكل أساسي لأوكرانيا ومولدوفا من خارج الاتحاد الأوروبي.

ومنذ نهاية شهر شباط الماضي -بعيد بدء العملية العسكرية الروسية- تجاوز حجم المساعدات الدولية لأوكرانيا 75 مليار دولار، وكانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكبر المانحين للمساعدات العسكرية والإنسانية.

خلال السنوات القليلة الماضية اهتزّ موقف الغرب في القارة الأفريقية بشكل كبير، بينما ازداد التأثير الروسي هناك. وفي محاولة منه لإدراك هذا الخلل، عقد البيت الأبيض قمة القادة الأمريكية الأفريقية في أواخر كانون الأول، والتي كانت النسخة الثانية لها منذ عام 2014.

ومن الجدير بالذكر أنه خلال فترة رئاسته للولايات المتحدة، لم يسبق لجو بايدن زيارة أي دولة من دول القارة السوداء، ومن الواضح أنه لم يعتبر أنه من الضروري القيام بذلك نفسه، ويفضل في حالات نادرة تفويض التابعين له لهذا الغرض.

في 11 كانون الأول الماضي، أظهر وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرليي صراحةً رغبة المملكة المتحدة في مواصلة استغلال الموارد الطبيعية للدول الأفريقية، معلناً عن نية لندن زيادة توسعها في أفريقيا. وعند تحليل “منعطف علاقات أفريقيا” مع المملكة المتحدة، تبرز “خطط لندن الخاصة” الأخيرة لرواندا، والتي يتمّ التعامل معها على أنها “مبررة” لمحاولة حلّ مشكلة المهاجرين غير الشرعيين، الذين سيتم إرسالهم الآن إلى هذا البلد الأفريقي، حيث سينتظر طالبو اللجوء القرارات بشأن طلباتهم للهجرة إلى المملكة المتحدة.

ومع ذلك، فإن مثل هذه الخطط البريطانية ليست جديدة في سياسة الأنغلو ساكسون في أفريقيا، حيث يعيد هؤلاء تكرار “المشروع الليبيري” للولايات المتحدة في أوائل القرن التاسع عشر لإعادة توطين الأمريكيين الملونين في أفريقيا من أجل إنشاء معقل لهم في القارة السوداء.

في ذلك الوقت، في عام 1822، أسس هؤلاء “المستوطنون” الذين أرسلتهم الولايات المتحدة، وأطلقوا على أنفسهم اسم الليبيريين الأمريكيين تحت رعاية جمعية الاستعمار الأمريكية، مستعمرة “الرجال الأحرار الملونين” في منطقة ساحلية بلغت مساحتها أكثر 13 ألف كيلومتر مربع، وسُميت هذه “المستوطنة” في عام 1824 ليبيريا.

بعد ذلك، بدأت أنشطتهم بالازدياد بسبب ضمّ واشنطن لجزء من ساحل سيراليون الحديثة، وكوت ديفوار بحلول عام 1828. ووفقاً لخطط الولايات المتحدة لمثل هذا التوسع، لم يسع هؤلاء المستوطنون إلى الاقتراب من المجتمع الأفريقي، واصفين أنفسهم بـ”الأمريكيين”، حيث تعكس رموز دولتهم والشكل المختار للحكومة، الماضي الأمريكي لليبيريين الأمريكيين. وطوال تاريخ هذا البلد، سعى سكانها في علاقاتهم مع الشعوب المجاورة، إلى السيطرة على السكان الملونين المحليين، الذين اعتبروهم برابرة وأشخاصاً من الدرجة الأدنى.

في الواقع، يحدث شيء مشابه الآن في رواندا من خلال جهود إدارة لندن الحالية، والتي تحاول بالتالي بدء موجة جديدة من “الفتوحات” للقارة السوداء. ومع ذلك، من غير المرجح أن تكون محاولات لندن هذه فعّالة، لأنه حتى الولايات المتحدة لم تنجح في جعل ليبيريا “دولة أوروبية”، وهي اليوم واحدة من أفقر دول العالم. لن ينجح هذا أيضاً مع المملكة المتحدة، التي انهارت إمبراطوريتها، وفقاً لوسائل الإعلام البريطانية نفسها، منذ فترة طويلة، ولم يتبق سوى رماد استعماري.

ومع ذلك، لتقديم “المساعدة” لمثل هذا المشروع، تبذل لندن محاولات مختلفة، وقد انخرطت بالفعل قوات الشركات العسكرية الخاصة البريطانية، التي تزايد عددها بشكل ملحوظ في أفريقيا مؤخراً.

ومن حيث المبدأ، هذا ليس مفاجئاً، لأن الشركة العسكرية الخاصة في شكلها الحديث هي اختراع بريطاني ظهر في عام 1967. وبالنسبة لقرار المملكة المتحدة استخدام الأدوات العسكرية بشكل أكثر فاعلية لتوسعها في أفريقيا، ففي عام 2019، قال رئيس هيئة الأركان العامة للجيش البريطاني نيك كارتر، إن لندن بحاجة إلى تعزيز وجودها العسكري في أفريقيا، من خلال وجود معزّز وأكثر فعالية للشركات العسكرية البريطانية.

من أجل تلبية تعليمات لندن لتكثيف العمل في أفريقيا، أعلن مؤسّس الشركة العسكرية الخاصة “إكسكوتيف أوتكوميس” عن استئناف أنشطة هذه الشركة العسكرية الخاصة، التي كانت تعمل في أفريقيا في تسعينيات القرن الماضي، مؤكداً أنها “ستكون نشطة ليس فقط في ساحة المعركة، ولكن أيضاً في مجال حرب المعلومات”.

اليوم، أصبحت الشركات العسكرية الخاصة واحدة من أدوات التوسع الغربي، بما في ذلك المواجهة مع روسيا والصين في أفريقيا، وخاصة في ظل الاهتمام المتزايد لدول هذه القارة بالتعاون مع دول ليست غربية بأي حال من الأحوال.