الموسيقا المتصوفة
غالية خوجة
الروح بصمة إلهية تتآلف مكونات أصلها “فنفخنا فيه من روحنا”، “قل الروح من أمر ربي”، وتختلف مكوناتها الذاتية من خلال تجارب كل نفس بشرية في هذه الحياة، لندرك بأن كل إنسان هو موسيقا بحدّ ذاته، وألحانها تتناغم مع مَن تتناغم، وتختلف مع مَن تختلف، لكنها لا تعزف إلاّ ذاتها التي كلما تصافت ارتقت من الباطن والظاهر ومع العالم المحيط ومتغيّراته والفضاء وفصوله والكون ومجراته ومسافاته الممدودة في الاتجاهات والمتمددة في الأزمنة.
فكلما ضاقت الروح حاولت الاتساع، وهذا البرزخ جعل جلال الدين الرومي يبتكر دورانه المولوي المتناغم مع نبضاته وإيقاعات الكون، هائماً في هذا العالم الأثيري المتمتع بالبصائر، متكاشفاً مع تلك المرايا المضيئة وهو يسبح بين محيطاتها وأدغاله الجوانية لا ليرسو على أي شاطئ لأن المكانية الملموسة أصبحت متحولة، والزمانية الكلية صارت متحركة، والموج ليس من ماء مألوف، والغوص كما التحليق كلاهما دوران آخر للروح وهي تعزف “وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر”.
فماذا لو جرّب كلٌّ منا موسيقاه الروحية، واتّحد مع معزوفاتها محدّقاً في أعماقه أكثر فأكثر؟ في أعماق الكون ولا نهائيته أكثر فأكثر؟
ترى، هل سيقول مع الحلاج: “فليس من الأينِ منك أينٌ، وليس أين بحيث أنت”، أم يدعو معه برجاء العارف: “لبيك لبيك يا سري ونجوائي، لبيك لبيك يا قصدي ومعنائي”؟ وكأن الموسيقا الخلفية لهذه الأبيات تظهر بين الغيوم العازفة لسيمفونية ضربات القدر لبيتهوفن الذي جعلها حوارية فنية بين “الأنا” المعذّبة وأمواج مونولوغها النازحة إلى أمواج القدر بصوتها المرتفع بحنان وهي تحضن الصوت الداخلي للإنسان، فينتقل مع دورانه الموسيقي إلى شطحة تردد مع السهروردي:”صافاهم فصفوا له فقلوبهم في نورها المشكاةُ والمصباحُ”.
حينها تبدو النغمات لولبية مثل شريط المورّثات وهي تصعد بأجنحة شفافة لجماليات أعلى فتتخلّى عن آخر الشوائب العالقة بها وتتجلّى بلونها المشع تكويناً جديداً ينفض عنه أبعاد المكان والزمان، فتبزغ موسيقا يوهان برامز المستمدة في بعض مقاطعها من قصائد حافظ الشيرازي الواثق بالجمال والفن والكلمة:”على الشعر أن يشع نوراً بذاته، ويترك بداخلك شمساً للأيام الباردة”.
وهنا، تلمع جوهرة الينبوع الصافي منشدة مع شمس التبريزي: “يا رب اجعل قلبي كفراشة، سحبت خيطاً من الجنة وجاءت إلى الأرض”، ومع تحركات الفراشة، أشعر بأنكم تصغون معي لمعزوفة الراعي الوحيد التي برع في عزفها الموسيقار جورج زامفير، ولكنها تضم إلينا كلمات أنطون تشيخوف: “الشمس لا تشرق في اليوم مرتين، والحياة لا تعطى مرتين، فلتتشبث بقوة ببقايا حياتك ولتنقذها”.