الولايات المتحدة… سفينة فقدت توازنها
عناية ناصر
سيتحوّل الصراع بين روسيا وأوكرانيا ليكون بؤرة التوتر المهيمنة لعام 2023، سواء من حيث حلّ الصراع، أو من حيث العواقب الأمنية على أوروبا، فهناك ثلاثة جوانب للصراع الروسي الأوكراني، أو كما يوصف أحياناً الصراع الروسي ضد الغرب الجماعي.
الجانب الأول عسكري، حين اتخذ الناتو قراراً باستخدام الجيش الأوكراني كوكيل له، حيث عمل على تدريب الجنود الأوكرانيين، وتجهيز الجيش الأوكراني، وإمداده بمعدات ثقيلة تقدّر بعشرات المليارات من الدولارات. كما عمل على تقديم الدعم في مجال الاتصالات، والاستخبارات والتخطيط، حتى بات الجيش الأوكراني يعتبر جيش الناتو بكل شيء باستثناء الجانب القانوني للعضوية الفعلية في الناتو.
لكن الناتو هو نمر من ورق كمنظمة تفتقر إلى القدرة العسكرية لفرض إرادتها على مكان معيّن، وهزيمته في أفغانستان وانسحابه في صيف عام 2021، مثال على ذلك، كما أنه يواجه هزيمة أخرى في حديقته الخلفية، في صراع كان يستعد له منذ عام 2008.
كان حلف الناتو، مؤخراً في حزيران 2022، يتحدث عن توسيع نفوذه في المحيط الهادئ لمواجهة الصين، لكن إذا ألقى الصينيون نظرة على ما يحدث عسكرياً في أوروبا، فيجب أن يكون هناك اعتراف متزايد بأن الناتو لا يمثل تهديداً عسكرياً للصين، وأن الصين ليس لديها ما تخشاه من الناتو.
أما الجانب التالي فهو اقتصادي، فمجموعة السبع هي ظاهرياً منظمة من أكثر سبعة اقتصادات نفوذاً في العالم، لكنها في الحقيقة تابعة للولايات المتحدة، فلولا الولايات المتحدة لما وُجدت مجموعة السبع، فهي موجودة لخدمة الولايات المتحدة ولتعزيز الفكرة التي تقودها الولايات المتحدة بشأن نظام دولي قائم على القواعد، وليس نظاماً دولياً قائماً على القانون، بل نظام دولي قائم على القواعد والنتائج التي تحدّدها الولايات المتحدة وحدها.
وافقت مجموعة الدول السبع الكبرى في أوروبا على الفكرة الأمريكية القائلة بإمكانية هزيمة روسيا اقتصادياً من خلال العقوبات، لكن هذا الأمر لم ينجح. لم تتنبّه روسيا فقط، بل تنبّه العالم أيضاً إلى حقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على الإملاء من خلال التهديد أو تنفيذ عقوبات اقتصادية من جانب واحد بقيادة أمريكية، فقد كانت هذه أداة تستخدمها الولايات المتحدة لعقود من الزمن لتشكيل العالم والتأثير عليه بالشكل الذي تراه مناسباً. لكن رفض روسيا الرضوخ والخضوع للعقوبات الأمريكية، أظهر للعالم أن الولايات المتحدة وأوروبا لم يعد بإمكانهما النجاح في التهديد بأي نتيجة من خلال العقوبات وحدها. ونتيجة لذلك أصبحت مجموعة السبع، بسبب هذه العقوبات، منظمة مدمرة. ويظهر ذلك في الاقتصاد الألماني الذي كان قوياً في عام 2021 أما في عام 2023 فهو ضعيف وممزق، وكذلك هي حال الاقتصاد الفرنسي والبريطاني والإيطالي.
أوروبا قارة ضعيفة وممزقة اقتصادياً، بسبب سياسة العقوبات الأمريكية، حتى أن هناك دولاً ترى أن مجموعة الدول الصناعية السبع لم تعد القوة المهيمنة اقتصادياً في العالم، ولكن دول البريكس هي القوة المهيمنة اقتصادياً، وهذه هي الحقيقة. قد يكون هذا الأمر سيحدث في المستقبل، ولكن تسارعت وتيرته بسبب الصراع الأوكراني، والتداعيات الاقتصادية لهذا الصراع.
يمرّ العالم بتحول اقتصادي جذري بعيداً عن التفرد وهيمنة الولايات المتحدة إلى عالم متعدّد الأقطاب، حيث أصبحت البريكس الآن اللاعب الرئيسي. فالصين، على عكس الولايات المتحدة، مستعدة للعمل مع الآخرين على قدم المساواة، في حين أن الولايات المتحدة تملي النتائج فقط، لذا فإن هذا التحول الاقتصادي هو بسبب الصراع الأوكراني.
ثم يأتي الجانب الثالث وهو الجغرافيا السياسية، فهناك تحول جيوسياسي جذري يجري بعيداً عن التفرد الأمريكي إلى التعددية القطبية العالمية، وهذا يحدث بسبب الصراع الأوكراني، لكن المشكلة أن الولايات المتحدة كانت قوية ومهيمنة لدرجة أنه على الرغم من أننا نتحدث عن تحول إلا أنها مثل سفينة عملاقة في المحيط. بمجرد أن يكون لديها الزخم للمضي قدماً، من الصعب جداً تغيير الاتجاه، لكن ما حدث في الصراع الأوكراني هو أن هذه السفينة فقدت توازنها، ولاذ بالفرار من على متنها.
وهذا هو المسار العالمي اليوم، من وجهة نظر جيوسياسية، الذي يبتعد عن التفرد الأمريكي ويتجه نحو التعددية القطبية، الأمر الذي يعني أن أمريكا لم تعد الكيان الوحيد الذي يجب أن ينجذب العالم حوله، وأن أمريكا الآن هي واحدة من عدة دول، وليست واحدة فقط.