حملة إعلامية شرسة
بسام هاشم
واضح تماماً أن هناك حملة إعلامية شرسة تستهدف سورية في الوقت الراهن.. حملة تستفيد من مناخات الاستياء والشكوى والمعاناة بسبب الحصار والعقوبات الاقتصادية الغربية، والانخراط العربي في هذه العقوبات تحت دعاوى الخوف والتحسّب من سياسات انتقامية أمريكية، علنية وسرية. وإن كانت هذه الحملة تستفيد من مناخات حرية التعبير التي نشهد ترجمتها العملية يومياً كسيل لا يتوقف من المنشورات والتعليقات و”اللايكات”، النهارية والليلية، فإنما تستند إلى التلاعب والتضليل في طرح أكثر القضايا السورية الراهنة حساسية وتعقيداً، وخاصة منها الشأن المعيشي، في مرحلة تتشابك فيها الأبعاد الداخلية والخارجية، وقضايا الفساد وانخفاض القيمة الشرائية مع أزمة الغذاء وارتفاعات الأسعار العالمية؛ ولكنها حملة تستند أيضاً إلى تهالك سوري، عابر للأجيال والمواقف، على مشاركات افتراضية لم تعُد تنفع في تفسيرها – كما يبدو- كليشهات “الجوع إلى الحوار” الشهيرة، بقدر ما تعكس، في جزء كبير منها، حالة من التبطل، وربما العبثية، والرغبة في تأكيد حضور الذات الهشة، ولا سيما أننا نطوي حرباً – كانت أشبه بمشروع إبادة جماعية- دون “سردية المنتصر”، ونخرج منها – كما يخشى- بذهنية فردية شحيحة، وربما أنانية.
تعكس هذه الهجمة التي تستهدف الداخل السوري و”مجتمع الموالاة” – إن جاز التعبير- تغييراً في قواعد اللعبة.. إنها تلاطف الطبقة الأولى الرقيقة من الشعور الوطني في حالته الخام، وتحاول تلفيق الوهم عن قضايا “لا تزال” مشتركة، مستدعية إمكانيات التضامن ولكن فقط في ساحة العمالة للخارج.. إنها نوع من غسل أيادي القتلة ورفع التهمة والمسؤولية حيال ما آلت إليه الأوضاع في سورية التي تدمّرت وانتكبت بضيق أفق كثيرين وهزالة وطنيتهم. وهذه الحملة، إذ تستهدف الالتفاف على واقع الهزيمة الميدانية والسياسية في محاولة لتعويض الخسائر بالمزيد من التهجم، فإنها تعرض ما أصاب سورية خلال السنوات الماضية على أنه عارض طارئ يمكن تجاوزه، وأن الصفح ممكن، وهي تذرف دموع التماسيح وتتباكى على الأحوال الصعبة، في إطار المنطق نفسه الذي تم امتطاؤه لتدمير سورية طوال أكثر من عقد؛ وكل ذلك في سياق “حرب ناعمة” تتكئ اليوم على التداعيات والمظاهر السلبية، المعروفة والمتوقعة، والمرافقة عادة لكل المؤامرات والهزات والتقلبات السياسية والاجتماعية العنيفة، وفي رهان أحمق وفاشل على ما يراه البعض نفاد قدرة السوريين على الصبر والتحمّل، أو على ذاكرة قصيرة ومحدودة، أو على تعاطف مزيّف يجهد عبثاً في مغازلة وطنية قلقة، ولكنها صلبة تعمّدت بالنار، وباتت عصيّة على التحريض الرخيص، ولها من الحصانة ما يمكّنها من التمييز بين الحرص الحقيقي وبين تقنيات وأساليب الإيهام والسيطرة النفسية والذهنية.
وللفضيحة، تتأسس الحملة الراهنة على بذر أوهام جديدة انطلاقاً من حسابات خاطئة ومقدّمات مستهلكة ومردودة، فالأتراك والقطريون – في معرض تبريرهم للانعطافات القائمة – يروّجون لقرب “حل سياسي” على قاعدة الاحتفاظ بالمكاسب، بمعنى المضيّ بمخطط “إلباس الشرعية” للمجموعات الإرهابية، وإنجاز “العودة الآمنة” المطلوبة التي ستمكّن أردوغان من حل “مشكلاته” قبيل انتخابات أيار القادم، بـ”استدارة” صغيرة قد تعفيه من الاتهامات بالخيانة؛ أما الأمريكيون فيصدرون العقوبات تلو العقوبات في سباق مع تطوّرات الأوضاع في الشمال والجنوب من سورية، والاجتماعات تتكرّر على أمل تشكيل “معارضة” جديدة تتكيّف مع المستجدات القائمة. أما جلاوزة “الثورة” أنفسهم فغارقون في الإحباط واليأس، بل هناك من لا يتردّد في التعبير عن نوع من الندم، وخاصة بعد أن تكشّفت قيمة هؤلاء على حقيقتها، وانحطّت سمعتهم بحيث باتت الصفة الملازمة لهم في الخارج أنهم.. “باعوا وطنهم”.
قد تكون الحملة الحالية آخر قشّة يتعلق بها مهزومون ومأجورون من أشباه سوريين سرعان ما ينزلقون في العزف على الفحيح الطائفي والمناطقي والعائلي، مناشدين – لسخرية القدر- “الموالاة” الالتحاق بهم، لا لشيء إلا لأنهم خسروا كل أدواتهم.. هم يعانون إفلاساً مدمّراً، ولن يكتسبوا بعد اليوم حتى صفة “المعارضة في الخارج”، الخاصة بالعملاء والزبانية والقتلة المأجورين، فالمساومة سوف تجري بهم. وما ظهور وتكاثر الأبواق المأجورة، بعد صمت، إلا الدليل على أن الحرب مستمرة ومتواصلة، بل تمدّ يدها إلى رصيد الانتصار الذي تحقق بالدم والتعب والصبر على الجوع والتهجير والمحاولة العبثية لاقتلاع السوريين من روحهم الوطنية..