واشنطن تعاقب دواء السوريين
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
الجريمة الأمريكية الجديدة بحق الشعب السوري طالت، هذه المرة، القطاع الصحي، في قرار صدر قبل أيام، حيث استهدف ما يسمى مكتب الصناعة والأمن، التابع لوزارة التجارة في الولايات المتحدة الأمريكية، القطاع الصحي في سورية مجدداً، وذلك من خلال فرض قيود إضافية على السماح ببيع التجهيزات، أو تقديم الخدمات، أو الدعم أو قطع الغيار، لعدد كبير من المشافي السورية العامة والخاصة، ما يعني أن أي عطل يتعرض لها جهاز طبي في سورية لن يتم إصلاحه، وبالتالي دخول المشافي في دوامة البحث عن قطع غيار أو مستلزمات تصليح، وإن وجدت ستكون بأضعاف التكاليف العالمية والفعلية لها، إذ أن التداعيات الكارثية لهذا سيحتاج ظهورها لفترة ليست بطويلة، لكن الانعكاس الأقرب للإجراء الأمريكي العدائي ظهر فوراً على أسعار الدواء، التي ارتفعت محلياً بنسبة قاربت 80 بالمئة.
هذه الإجراءات اللا إنسانية الجديدة تؤكد مرة أخرى بطلان المزاعم التي تروج لها الإدارة الأمريكية عن وجود استثناءاتٍ لأغراض إنسانية من التدابير القسرية الانفرادية اللاشرعية والحصار اللا قانوني واللا أخلاقي الذي تفرضه على الشعب السوري، ما يتطلب تحركاً عاجلاً من الأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر لوضع حد لهذه الممارسات العدائية التي تمثل عقاباً جماعياً للشعب السوري.
إن قرار مكتب الصناعة والأمن في وزارة التجارة الأمريكية يشكل منصة جديدة لتشديد الحصار الاقتصادي على الشعب السوري، بذرائع الكذب الذي بات سمة السياسات الأمريكية، حيث تسعى واشنطن لتحقيق جملة من الأهداف في إطار ضغطها على سورية، فالتداعيات على المستوى الاقتصادي مثلاً، ستكون على عدة اتجاهات، أهمها التأثير على العمليات الإنتاجية، من خلال تشديد الرقابة على المستوردات السورية، حيث ستواجه الصناعات السورية، وخاصة الدوائية منها، صعوبة في الحصول على بعض المواد الأولية، والتأثير أيضاً على العمليات التصديرية، وخاصة إلى دول الجوار، بعد أن استطاعت المنتجات السورية خلال السنوات الأخيرة العودة إلى أسواقها، إذ أن القانون الأمريكي الجديد سينتج تعقيدات في التفتيش على الحدود، ما قد يعرض الكثير من الصادرات، التي تشكل المواد الزراعية والغذائية غالبيتها للتلف، دون إغفال التأثير السلبي للقانون العدائي الأمريكي على جاذبية سورية كوجهة للاستثمارات.
القطاع الصحي بات مستهدفاً
لطالما كذبت أمريكا على العالم بأن القطاع الصحي في سورية غير مستهدف، لكن اليوم نراه هو المستهدف بشكل صريح ومباشر دون أي مواربة، وهذه العقوبات الجديدة تجد نفسها أمام خيارات رئيسية تفرضها تجاذبات السياسة الدولية، كالاستجابة للأصوات المطالبة بالرفع الكامل غير المشروط لتلك العقوبات، بغية مساعدة الحكومة السورية على مواجهة الصعوبات التي تعيق عمل القطاع الصحي، مقابل استمرار هذه العقوبات، ودخولها مرحلة جيدة من “الخنق الاقتصادي” منذ بدء تنفيذ ما يسمى قانون “قيصر”.
وأياً كان الخيار، فإن معظم الآراء تتفق على أن السوريين المقيمين في الداخل هم الذين تحملوا القسم الأعظم من الفاتورة المترتبة على معظم تلك العقوبات. وفي مناقشة هكذا ملف، وبعيداً عن الأهداف والمبررات السياسية، فإن تتبع تأثير بعض هذه العقوبات على الاحتياجات الأساسية للسكان، من غذاء ودواء وغير ذلك، والتي تضررت بشكل كبير أصلاً بسبب ظروف الحرب، يمكن أن يساعد في إجراء تقييم حقيقي لأثر تلك العقوبات على المستوى الشعبي، لاسيما وأنه في جميع الحالات التي طبقت فيها العقوبات، سواء بقرار أحادي الجانب أو عبر مظلة مجلس الأمن الدولي، كان الشعب السوري هو المتضرر الأكبر.
وبالنظر إلى الهاجس الصحي، فإن مناقشة واقع العقوبات الاقتصادية على سورية ستكون من خلال رصد تأثيرها على قطاع الصناعة الدوائية السورية، ففي الوقت الذي كانت فيه هذه العقوبات تعلن استثنائها القطاع الصحي، كانت إجراءاتها العملية تلاحق كل ما له علاقة بتطوير هذا القطاع وتأمين احتياجاته.
تاريخ الصناعة الدوائية
تصنف الصناعات الدوائية في سورية على أنها من بين الاستثمارات الأكثر نمواً ونجاحاً في خلال العقدين اللذين سبقا الحرب الإرهابية عليها، إذ لم تكد تمضي أربع سنوات على السماح للقطاع الخاص تأسيس مصانع لإنتاج الدواء في العام 1987 حتى وصل عدد المعامل المرخصة والمستثمرة إلى أكثر من 28 معملاً، سرعان ما عاودت الارتفاع بعد سنوات قليلة ليصل عددها إلى نحو 44 معملاً، ثم إلى 56 معملاً في العام 2006، وإلى نحو 70 معملاً مطلع العام 2011، والذي دخلته بمؤشرات اقتصادية مرتفعة، حيث أن منتجاتها تغطي ما نسبته 93% من احتياجات السوق المحلية، البالغ حجمها آنذاك وفق تقديرات رسمية نحو 400 مليون دولار، تتوزع على 350 مليون دولار إنتاج محلي، وما بين 40-50 مليون دولار مستوردات خارجية، هي غالباً عبارة عن أدوية سرطانية ولقاحات، وغير ذلك من الأدوية غير المنتجة محلياً والمقدمة غالباً بشكل مجاني للمرضى في المشافي الحكومية المتخصصة، هذا إضافة إلى زيادة صادرات البلاد من الدواء لتصل إلى أسواق أكثر من 44 بلداً حول العالم.
لكن الحرب الكونية على سورية أتت على أربعة عقود من التنمية، حيث وجدت الصناعة الدوائية نفسها بين المستهدفين بالخريب، فهي من جهة تعرضت كباقي المنشآت الاقتصادية والخدمية الموجودة إلى أضرار متباينة الحجم، طاولت أبنيتها وتجهيزاتها وخطط إنتاجها، الأمر الذي تسبب بخروج أكثر من 19 معملاً عن الخدمة سرعان ما عاد معظمها تدريجياً للعمل مع استقرار الأوضاع، والتي ساعدت كذلك في تشجيع مستثمرين آخرين للحصول على تراخيص إنشاء معامل جديدة، ليصل إجمالي عدد المعامل المرخصة مع نهاية العام 2019 لنحو 92 معملاً، إلا أنه عملياً ليس هناك سوى عدد قليل من المعامل تعمل بطاقتها الإنتاجية الكاملة بفعل إفرازات الحرب والعقوبات.
إن العقوبات الاقتصادية، التي فرضت بشكل تدريجي على سورية منذ منتصف العام 2011، تركت تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على هذه الصناعة لجهة الأصناف المنتجة ومصادر موادها الأولية وأسعارها، والتي زادت في آخر قرار صدر عن وزارة الصحة قبل أكثر من عامين بنسبة 50%، وتالياً فإن كثير من الأسر السورية بات عليها في حالات معينة المفاضلة بين أولوية الإنفاق على تأمين الطعام لأفرادها أو الإنفاق على شراء الدواء، والذي لم تكن نسبته تتجاوز من متوسط إنفاق الأسرة قبل عام ٢٠١١ أكثر من %1.5.
في التأثيرات المباشرة تحضر عدة نقاط جوهرية، أسهمت في نقص بعض الأدوية، وبشكل خاص أدوية الأمراض المزمنة كأدوية القلب والضغط والسكري، كما أن تغطية حاجة السوق انخفضت إلى أقل من ٧٠% أثناء الحرب. ومن أبرز تلك النقاط ما يتعلق بالإنتاج الدوائي واستمراريته، إذ أن العقوبات عرقلت تزويد السوق السورية بالمواد الأولية من خلال التحديات والصعوبات التي فرضتها تلك العقوبات، والتي أدت إلى امتناع الشركات المتعددة الجنسيات عن التعامل مع الشركات السورية، وارتفاع أسعار المواد الأولية بفعل زيادة تكاليف الشحن ورسوم التأمين واحتكار المواد، واشتراط التسديد المسبق من قبل شركات الشحن مما يعرض الشركات السورية لخسائر كبيرة في حال نكوص الشركة المصدرة عن شحن البضاعة، وتحديد طريق الاستلام للبضائع خارج سورية لانتفاء استخدام مرفأي اللاذقية وطرطوس ومطار دمشق، مما أضاف عبئاً مالياً وإدارياً على الشركات المستوردة.
ثم جاءت العقوبات لتمنع استيراد المواد الأولية الفعالة والمساعدة، وبعض مواد التعبئة والتغليف التي لا تصنع محلياً، هذا فضلاً عن تأثير العقوبات على التعاملات المصرفية وتحويل الأموال، ورفض عدد كبير من الشركات الموردة للمواد ومستلزمات الإنتاج كقطع التبديل والأجهزة والمواد المخبرية التعامل مع المعامل الوطنية.
من الطبيعي عندما يصل الأمر بالعقوبات إلى مرحلة وقف تصدير مستلزمات العملية الإنتاجية، أن تسحب الشركات الأجنبية امتيازاتها الممنوحة إلى 58 شركة دواء سورية، كانت تنتج بموجب تلك الامتيازات أصنافاً تبلغ نسبتها نحو 8% من مجمل الأصناف المنتجة محلياً. وهي أصناف نوعية تدخل في صميم السياسة العلاجية السورية، حيث كانت الشركات المانحة للامتيازات شريكة في الإنتاج وتوريد المواد الأولية ورقابة المنتج النهائي. ونتيجة إلغاء الامتيازات الأجنبية الممنوحة اضطرت الشركات السورية إلى البحث عن مصادر أخرى لتـأمين المواد الأولية اللازمة لإنتاج الأصناف المنتجة سابقاً بترخيص أجنبي. وبسبب العقوبات وجدت الصناعة الدوائية نفسها أمام استحالة تطبيق التجديد المطلوب، أو صرف مبالغ طائلة لتأمين هذه المعدات بطريقة تجنبها المصادرة في طريقها أو من مصادر أخرى غير المصنعة لها.
إن التأثيرات العامة للحرب على الاقتصاد السوري، بما فيها صعوبة تأمين احتياجات البلاد من مصادر الطاقة مع استمرار سيطرة القوات الأمريكية على آبار النفط الرئيسية في منطقة الجزيرة السورية، أدت إلى رفع تكلفة إنتاج الصناعة الدوائية إلى حدود من شأنها أن تؤدي إلى التأثير على قدرة المستهلك على شراء الدواء، وربما هذا ما يجعل الأصناف المنتجة لا تشكل مع نهاية العام الماضي سوى 66% من الأصناف المرخصة وفق بيانات رسمية.
أين منظمة الصحة العالمية؟
إن العقوبات الغربية تقيد بشكل حاد واردات الدواء، على الرغم من إعفاء الإمدادات الطبية إلى حد بعيد من الإجراءات العقابية التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وعلاوة على ذلك أدى تراجع إنفاق الحكومة السورية التي تخوض حرباً مكلفة للغاية، والهبوط الحاد في قيمة الليرة السورية، والتأثيرات غير المباشرة للعقوبات إلى تفاقم مأساة المرضى الذين يحتاجون إلى الأدوية. تقول إليزابيث هوف، ممثلة منظمة الصحة العالمية في سورية، إن استيراد الأدوية من الخارج تضرر جراء خفض الحكومة للإنفاق على قطاع الصحة بشكل كبير منذ بدء الحرب عام 2011، بالإضافة إلى فقدان الليرة حوالي تسعين في المئة من قيمتها، الأمر الذي جعل بعض الأدوية باهظة التكلفة. غير أن نقص السيولة ليس السبب الوحيد وراء النقص الحاد في تلبية الطلب المتزايد على الأدوية، بل إنه نتيجة تبعات العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية بشدة على شراء أنواع معينة من الأدوية بينها أدوية علاج السرطان، حسب ما قالت هوف.
يذكر أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فرضتا مجموعة من العقوبات الموجهة ضد الدولة السورية، ومنعت واشنطن تصدير أو بيع بضائع وخدمات إلى سورية من الأراضي الأمريكية أو من مواطنين أمريكيين. في حين فرض الاتحاد الأوروبي حظر سفر أفراد وجمد أصولاً وممتلكات. كما استهدفت العقوبات أيضاً العلاقات المالية مع المؤسسات السورية وشراء النفط والغاز من البلاد أو الاستثمار في قطاع الطاقة السوري. ووضعت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي مجموعة من الاستثناءات التي تشمل الأدوية وغيرها من الإمدادات الإنسانية، لكن باستهداف التعاملات المالية ومنع كثير من التبادلات التجارية مع الحكومة السورية فإن العقوبات تؤثر بشكل غير مباشر على التجارة في الأدوية، حيث فضل كثير من شركات الأدوية التزام الحيطة وتجنب أي علاقات تجارية مع الحكومة السورية خوفاً من انتهاك العقوبات دون قصد.
معاقبة الشعب السوري
تظهر عدة مؤشرات أن المواطنين السوريين العاديين هم الأكثر تضرراً من العقوبات الأمريكية، بما في ذلك العقوبات المفروضة بموجب “قانون قيصر”. فقد فرضت الولايات المتحدة في نيسان عام 2011 أول حزمة عقوبات، وفي الشهر التالي علق الاتحاد الأوروبي برامج واتفاقيات التعاون المبرمة مع الحكومة السورية كافة. وفي آب، فرضت الولايات المتحدة عقوبات إضافية تضمنت حظراً على جميع المعاملات التي تشمل النفط السوري أو المنتجات النفطية السوريّة. وفي أيلول 2011 وسع الاتحاد الأوروبي القائمة لتشمل مصرف سورية المركزي، ومصارف عامة واستثمارات في قطاع النفط والغاز السوري. وفرضت تركيا أيضاً عقوبات تجارية، ووافقت جامعة الدول العربية على تجميد الأصول السورية في البلدان العربية، وإنهاء جميع المعاملات المالية مع الحكومة السورية (لكن قرارات جامعة الدولة العربيّة ليست ملزمة لأعضائها).
وقد اتسع نطاق تطبيق العقوبات في كانون الأول من عام 2019 عندما وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب “قانون قيصر” الذي دخل حيز التنفيذ في 17 حزيران. فبينما استهدفت العقوبات السابقة بصفة رئيسيّة الهيئات والكيانات المتواجدة داخل سورية، سمح هذا القانون بفرض عقوبات على أية جهات أجنبيّة -سواء أفراد أو كيانات- لديها علاقات تجارية مع سورية.
كان الأثر السلبي لهذه العقوبات واضحاً على الأحوال المعيشية لمعظم المواطنين السوريين، ويبدو ذلك جلياً في قطاعات الطاقة والمالية والصحة، حيث يجد معظم الناس داخل سورية صعوبة في الحصول على المشتقات النفطية والأدوية، كما كان لقانون “قيصر” أيضاً “تأثير مثبّط” على الشركات الأجنبية التي تفضل عدم المجازفة، وتتجنب التعامل مع أي سوريين سواء كانوا أفراداً أو كيانات، حتى لو كان ذلك في القطاعات والأنشطة التي لا تتأثر بالعقوبات.
رفع العقوبات عن سورية
إن الأثر الكبير للتدابير القسرية أحادية الجانب المفروضة على سورية طالت بشكل أساسي المواطنين السوريين، وبحسب تقرير المقررة الأممية الخاصة المعنية بآثار العقوبات الأحادية الجانب إلينا دوهان الأخير الذي ستقدمه الى مجلس حقوق الإنسان في أيلول عام 2023، فإن 90 في المئة من سكان سورية يعيشون حالياً تحت خط الفقر، مشيرة إلى تدمير أكثر من نصف البنية التحتية الحيوية بالكامل. ولفتت إلى أنّ فرض عقوبات أحادية الجانب على القطاعات الاقتصادية الرئيسية، كالطاقة والتجارة والبناء، أدت إلى تقويض الجهود نحو التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار، داعيةً إلى رفع تلك العقوبات. وأشارت إلى أن العقوبات الاقتصادية والمصرفية، تسبب بنقص حاد في الأدوية والمعدات الطبية، وتوقف عملية إعادة تأهيل شبكات توزيع مياه الشرب والري، معتبرةً أنه لا يمكن تبرير انتهاك حقوق الإنسان الأساسية بالحديث عن النيات والأهداف الحسنة للعقوبات الأحادية الجانب.
دوهان المعنية بإعداد تقرير خاص حول أثر التدابير أحادية الجانب على حقوق الإنسان في سورية، حذرت من أن العقوبات تزيد وتطيل أمد الدمار والمعاناة اللذين يواجههما الشعب السوري منذ عام 2011. وإن عدم إمكانية التسديد والدفع ورفض التسليم من قبل المنتجين والمصارف الأجنبية إلى جانب نقص الاحتياطيات من العملات الأجنبية التي فرضتها العقوبات تسبب في نقص كبير في الأدوية، والمعدات الطبية التخصصية خاصة الأمراض المزمنة والنادرة. وقالت: “لا يمكن تبرير انتهاك حقوق الإنسان الأساسية بالحديث عن النوايا والأهداف الحسنة للعقوبات أحادية الجانب، وعلى المجتمع الدولي الالتزام بالتضامن وتقديم المساعدة للشعب السوري”.