إصابات مميتة في ورشات ومعامل مخالفة أشبه “بالخرابة”.. وصاحب العمل خارج المساءلة!
ليست المرّة الأولى ولن تكون الأخيرة التي نسمع بها بوفاة عامل أو عاملة بطريقة مأساوية، أو إصابتهم بعاهة دائمة في مواقع عملهم، وليست المرّة الأولى أيضاً التي يتوارى بها مالك الورشة أو المعمل عن الأنظار ويُطوى بها ملف الوفاة أو التشوّه ويمرّ بسلام دون معاقبة أو معالجة أو ردع لأصحاب المعامل والورشات غير الملتزمين والمُلزمين عمالهم بالتقيّد بشروط ومعايير الصحة والسلامة المهنية، إذ لم تستطع الورشات والندوات والمحاضرات النظرية أن تحدّ من نسبة تعرض العمال في القطاعين العام والخاص للمخاطر والحوادث!.
وعلى الرغم من أن حادثة الوفاة الأخيرة التي أودت بحياة العاملة رشا حصلت ضمن ورشة عمل خاصة صغيرة في إحدى قرى منطقة جبلة، إلّا أن أصابع الاتهام وجّهت إلى الجهة الوصائية للعمال في القطاع العام واتهامها بعدم القدرة على تأمين الحماية الكاملة وتوفير بيئة عمل سليمة لهم، لتؤكد الأخيرة أن ورشة العمل التي توفيت فيها العاملة رشا هي خاصة وليست تابعة للاتحاد الذي قام بواجبه تجاه ذوي المتوفاة، إضافة إلى تعاونه مع مؤسسة التأمينات لشمل بقية العاملين فيها تحت مظلتها.
سياسة الترقيع
استطاعت سنوات الحرب وما تلاها من فلتان وتسيّب إفساح المجال للكثير من الجشعين بفتح ورشات ومعامل مخالفة للشروط الصحية، استقطبت المحتاجين لأدنى عائد مادي لهم في ظل الظروف المعيشية الصعبة، والتي دفع الكثير منهم حياتهم أو قطعة من أطرافهم ثمناً للعمل في بيئة عمل أشبه “بالخرابة”، ومما لاشك فيه أيضاً أن الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها العاملون في المعامل والمصانع التابعة للقطاع العام كثيرة ولا تتناسب طرداً مع الرواتب والأجور والحوافز وغيرها من متممات رواتبهم التي يتقاضونها، مقارنة مع القطاع الخاص المنظّم والذي استعاد نشاطه في الكثير من المطارح واستطاع استقطاب اليد العاملة المهنية ذات الخبرة من العام إليه، ناهيك عن تحسين خطوط إنتاجية بين الحين والآخر، في حين لا زالت أغلب شركات العام تعمل على ما بقي من آلاتها القديمة ضمن سياسة “الترقيع” لها، الأمر الذي يضاعف نسبة حدوث أخطار صحية على العاملين فيها، ولاسيّما في مصانع المواد الكيماوية والمنتجات الكهربائية وشركات البناء، إضافة إلى الكثير من المجالات التي تعدّ من المهن الشاقة والخطرة على سلامة العمال، الأمر الذي يستدعي التساؤل حول الإجراءات المتخذة لضمان صحة وسلامة العامل السوري ووقايته من المخاطر المحتملة أثناء أدائه لعمله.
غيض من فيض
إن تحقيق وتنفيذ مهام الصحة والسلامة المهنية تقع مسؤوليته على أطراف الإنتاج مجتمعين، برأي ياسين صهيوني رئيس الاتحاد المهني لنقابات عمال التبغ والصناعات الغذائية، فعلى الحكومات تقع مسؤولية وضع التشريعات وسنّ القوانين والنظم التي تؤمن مراقبة تنفيذ اشتراطات الصحة والسلامة المهنية من خلال مفتشي الصحة المهنية، وعلى أصحاب العمل تقع مسؤولية تنفيذ شروط السلامة المهنية ووضعها وضع التنفيذ الفعلي والعملي، وتأمين وسائل القياس حسب طبيعة العمل والمخاطر المتواجدة به، كما تقع على النقابات وممثلي العمال مسؤولية التوجيه والتوعية في مجال الصحة والسلامة المهنية والمشاركة في لجان السلامة المهنية في المنشآت، لافتاً إلى أن الحادثة الأخيرة التي أودت بحياة عاملة في العجانة ليست تابعة لمنشأة قطاع عام كما أشيع بل لمنشأة صغيرة خاصة ومخالفة حتماً. ولم ينكر صهيوني وجود فلتان نوعاً ما في بعض الورشات والمعامل الصغيرة غير المنظمة لعمالها وغير المسجلين في التأمينات وغيرها من الشروط، وهذه ليست إلا غيضاً من فيض الحالات المخالفة والحاصلة دائماً، وعلى الرغم من أن الحادثة تابعة للقطاع الخاص إلا أن الاتحاد العام ونقابته في اللاذقية تواصل مع مدير التأمينات ووعد بتأمين تعويض لها واعتبارها مثبتة وموظفة في القطاع العام، إضافة إلى تشميل العاملين في هذه الورشة وتأمينهم وتطبيق كل الضبوط والإجراءات القانونية بحق صاحب الورشة.
عشوائية وعدم خبرة
صهيوني تطرّق في حديثه إلى قيام القطاع الخاص بتعيين عمال بشكل عشوائي بعيداً عن الخبرة والكفاءة، كأن يعمل طلاب جامعة مثلاً في فترة الصيف في ورشاتهم الصغيرة دون تأمينهم، وغيرها من التجاوزات للقوانين والأنظمة التي تضمنها قانون التأمينات الاجتماعية والذي تضمن التزامات كلّ من المؤسسة وصاحب العمل في مجال رعاية صحة وسلامة العمال من أخطار العمل والأمراض المهنية، وألزم بشكل خاص مؤسسة التأمينات بالإشراف على خدمات السلامة المهنية لمختلف مؤسسات ومنشآت العمل في مختلف قطاعات العمل والإنتاج (العام، الخاص، المشترك)، كما ألزم القانون قيام المؤسسة بحملات تفتيش دورية على أمكنة العمل للتأكد من التزام أصحاب العمل بحماية العاملين عندهم. ولفت رئيس الاتحاد المهني إلى أن نسبة تعرّض العمال لمخاطر العمل عالية نتيجة قدم خطوط الإنتاج وحاجتها للتبديل لعدم وجود جدوى اقتصادية منها، يرافقها ارتفاع نسبة حدوث الخطر، ناهيك عن عدم جدوى ترقيع الكثير منها في ظل ارتفاع قطع المستوردات، أي أنه من الطبيعي عند تهيئة ظروف مثالية من خطوط إنتاج مع وجود معدات أمن صناعي من صيدلية وطفاية ولباس وقائي سنصل إلى نسبة أقل من 1% لحدوث خطر وخلل، لكن في ظل الظرف الراهن وعدم قدرتنا على شراء لباس خاص بالاطفائيين سواء في الإدارة المحلية أو في وزارة الزراعة بقسم الحراج المعتمدين إلى الآن على طرق بدائية في إطفاء الحرائق، فإن نسبة الخطر ستتزايد حتماً.
ولفت صهيوني إلى أن ازدياد الإصابات سببه أيضاً تسرّب قسم كبير من العمال في القطاع العام إلى الخاص أو هجرتهم نتيجة انخفاض الأجور والرواتب، وبالتالي وصولنا إلى نقص بالملاكات العددية في جميع القطاعات ليتمّ ترميم هذا النقص بعقود موسمية بعمال خبرتهم ضعيفة، وخاصة ما يتعلق بالسلامة المهنية ومعرفة حجم مخاطر مكان العمل.
لا مبالاة..!
ولم يُخفِ خلف حنوش رئيس الاتحاد المهني لنقابات عمال البناء والأخشاب أن الصحة والسلامة هي من أهم الأولويات في الاتحاد العام والاتحاد المهني، وخاصة بالنسبة للقطاع الإنشائي باعتباره من أكثر القطاعات التي يتعرض العاملون فيها لمخاطر العمل من خلال التعامل مع الآليات والمعدات الثقيلة ضمن بيئة عمل خطرة، لذلك يتم دوماً التعاون مع المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية ومع النقابات في المحافظات لإقامة دورات توعية للعاملين، وتكون الدورات ضمن مكان العمل من خلال شاشات عرض واختصاصيين، كذلك يتم إقامة دورات مركزية للصحة والسلامة المهنية في المعهد النقابي لما لهذا الأمر من أهمية، لافتاً إلى حدوث إصابات بين الحين والآخر رغم توخي الحذر الكامل نتيجة اندفاع العامل للعمل لإنجاح مهمته بهذا العمل، ولا نخفي حدوث عدة وفيات في الكسارات بمعامل الاسمنت نتيجة عدم وجود لوحات إعلانية توعوية.
لا تلبي الطموح
أما بالنسبة للتشريعات في قانون التأمينات الاجتماعية فيجد حنوش أنها لا تلبي الطموح في بعض الأحيان، ولاسيّما في حادثة تعرض عامل في شركة اسمنت طرطوس لبتر يده بشكل كامل منذ خمس سنوات نتيجة حرصه على إنجاز عمله بالشكل الأمثل والأسرع، إلّا أنه في النهاية حصل على عجز تأميني كامل ضمن القانون لكنه لم يكن بمستوى الطموح المرجو، كما لم يتم تركيب مفصل إلكتروني له نتيجة ارتفاع قيمته مثلاً.
رئيسُ الاتحاد المهني نوّه في حديثه بأن الالتزام بتطبيق معايير الصحة والسلامة المهنية هو مبادرة فردية في أغلب الأحيان، مطالباً بتفعيل دور دوائر الصحة والسلامة المهنية في كل القطاعات، وخاصة مع وجود لا مبالاة في بعض الدوائر مع الحفاظ على وصول اللباس الواقي لكل محطات الإنتاج الذي هو مؤمن. ولم ينكر حنوش أن قدم الآلات له دور سلبي بإصابات العمل لكنه ليس أساسياً في حدوث إصابات، فاليوم نتيجة الحرب والحصار المفروض يقوم العمال بإعادة تأهيل الآلات والقطع التبديلية المستعملة وإعادتها للإنتاج مرة أخرى.
لا مجال للخطأ
وعلى ما يبدو فإن واقع الصحة والسلامة المهنية يختلف من اتحاد مهني لآخر، إذ لم نلمس وجود لا مبالاة في تطبيق والالتزام بالمعايير عند عمال النفط نظراً لخطورة العمل بهذا القطاع، ليشدّد عبد المعين حميدي رئيس الاتحاد المهني لنقابات عمال النفط في حديثه على عدوم وجود مجال للخطأ أو إغفال العمال لارتداء اللباس الواقي والحذاء المعدني الخاص بهم وبعمال القطاع الكهربائي، لافتاً إلى الأولوية الكبيرة المعطاة لجانب سلامة العاملين في هذا القطاع بعيداً عن الندوات والخطابات، مشيراً إلى وجود قسم مختص بالصحة والسلامة المهنية في كل موقع إنتاجي يُعنى بسلامة وواقع العمال من حيث التوجيهات والمتابعة لهم في موقع عملهم.
رئيسُ الاتحاد المهني لفت إلى أن نسبة الخطورة في قطاع النفط كبيرة جداً، لكنها في الوقت نفسه نادرة جداً نتيجة المتابعة، حيث لا مجال للعمل ضمن خطوط إنتاج قديمة كباقي القطاعات، ولا يمكن التساهل مع اهتراء أو قدم آلة أو خط إنتاج لأن انفجاره يسبب كوارث بشرية ومادية وأذى يلحق بالمنشأة كاملة، لذا تتم الصيانة بشكل دوري وارتداء العاملين للخوذة وبدلة العمل ليس خياراً في قطاعنا.
وفيما يخصّ الإصابات أثناء العمل، أشار حميدي إلى أن الطبابة في قطاع النفط أكثر من جيدة، ناهيك عن أنه في حال تعرّض أي عامل لأي مرض مهني أو غير منهي باستطاعته المجيء إلى الطبيب المركزي في دمشق ليتم تأمين اللازم له، وفي حال كان يعاني من مرض عضال يقدم ثبوتية بأن الطب في سورية غير قادر على معالجته ليتمّ تأمين استشفاء له في أي دولة يختارها، وتمّ إرسال عمال لمعالجتهم إلى أكثر من دولة وعلى نفقة وزارة النفط.
عائد اقتصادي
لا شكّ أن المحافظة على سلامة العمال لها مردود اقتصادي كبير، من وجهة نظر عبد القادر النحاس أمين الشؤون الصحية في اتحاد العمال، إذ أن حماية صحة العمال توفر في نفقات العلاج وتعويضات العجز والوفاة، وتخفّف من آلام العمال وعائلاتهم وتزيد الإنتاج كماً ونوعاً، لذا تسعى أمانة الشؤون الصحية في اتحاد العمال لتفعيل دور الصحة والسلامة المهنية ودور مفتشي الصحة والسلامة المهنية، وتحسين شروط وظروف بيئة العمل بما يساهم في رفع الطاقة الإنتاجية وتحسين النوعية. وكشف النحاس أن الجولات على عدد من الشركات والمؤسّسات والمعامل كشفت مدى تأثر العمال صحياً وبشكل واضح ببيئة العمل والجو المحيط الناتج عن العمل والآلات وغيرها جراء غياب الأمن الصناعي، حيث تمّت مخاطبة مديرية الصحة والسلامة المهنية للقيام بجولات ميدانية على مواقع العمل والاطلاع على أرض الواقع على الوضع الصحي للعاملين فيها، وتأمين مستلزمات الأمن الصناعي للعمال.
ميس بركات