الكاريكاتور.. بين الفطرة والاكتساب
رائد خليل
يحتاج مفهوم الفن إلى صياغة نقدية متجدّدة. وهنا، يضع التجريب النقاط في موضعها الصحيح.. وكثيراً ما تكون أفعالنا مبنية على أساس المعرفة المتين، وتستند إلى معطيات واضحة المعالم والدلالات. وهذا استدلال يقول إنّ معيار الحقيقة هو بالممارسة الفعالة، بغضّ النظر عن متغيراتها في دائرة الشخوص والأماكن. وفي الفن عموماً، قد تتشابه الأثواب الشكلية من شخوص في إطار الصياغة الفكرية ومساحات الابتكار، ولكن تبقى مسألة العزف المنفرد داخل أسوار العمل الفني هي حالة خاصة مزحومة بذاتية الفنان ورؤيته الخاصة. وفي الفن محدّدات شكلية، واشتقاقات تتقاطع فيها الرؤى في وحدة وصفية ورموز متاحة للجميع. وفن الكاريكاتور، هو مفردات مخصبّة تأتي بالتراكم المعرفي والدخول في قضية التفكيك والتركيب لإعادة بلورة مفهومي الفطرة والاكتساب!
مطالب الفن من صانعه
العلاقة بين الفنان ولوحته فيها الكثير من التناغم “الهارموني”، لدرجة الانصهار الحقيقي، وهذا ربط منطقيّ في رحلة التلقي وتقديم الممكن.
وأستحضر قصة تحاكي واقع الحال والسؤال معاً.. فقد دعا سقراط ضيوفه إلى مائدة، ولاحظ أحدهم أنّ المائدة ينقصها أشياء كثيرة. فقال له: كان ينبغي أن تهتمّ بضيوفك أكثر، وأن تعتني بالطعام أيضاً. فقال له سقراط: إنْ كنتم عقلاء، فعليها ما يكفيكم، وإنْ كنتم جهلاء، فعليها فوق ما تستحقون!
وإذا أردنا الحديث عن مائدة الكاريكاتور بأصنافه كافة، وعن عائده المعرفي، يجوز لنا الكلام عن الوعي والإدراك الحقيقيين في تلقي المعرفة بأبعادها النفسية والحسيّة، والتعقّل في إبداء الرأي بتلك المشاهدات المتجلية في ترجمة وقائع الحياة بكل تفاصيلها إلى إضاءة متعدّدة الزوايا تستقوي بالقدرة الإبداعية للفنان.
وهنا، ندركُ أهمية التفاعل الحسّي مع مفردات العمل الكاريكاتوري، أو بمعنى آخر الولوج أكثر في استعارة المفاهيم الإنسانية التعبيرية الممزوجة بفضاء التخيّل، والعامرة بتوليفات بصرية مبنية على تراكمات معرفية لا تخلو من السرد.
الحمولات النصية
هنا، نؤكد حقيقة أنّ العين الثالثة التي تميّز الرسم الكاريكاتوري عن باقي ضروب العمل الإبداعي، ما هي سوى مقولة فنية تُخفي الكثير من الإيقاعات البصرية المفعمة بمكونات المسحة التعبيرية التي تُشكّل عماد اللوحة. أما اللجوء إلى التنويع في طرح المسائل الجدية منها والهزلية الساخرة، فأجزم أن المسألة محسومة، لأنه فن يستند أساساً إلى عامل السخرية وتلقف المشاهد بأسلوب مغاير.. لا بل يتفوق على الفنون الأخرى لأسباب كثيرة، منها سرعة الوصول إلى المتلقي، وترك مساحة له من التفكير وتحليل الخطوط المنقوشة على مساحة التخيل.
إن لم تكن مثلي.. فأنت ضدي
يبدو أن واقع الحال الفني عموماً والكاريكاتور خصوصاً “من بعضه”، كما يقال.. وهنا، أستحضر قصة تفسّر الحالة.. قصة الكاتب الأمريكي مارك توين الذي كان مغرماً بالراحة، حتى إنه كان يمارس الكتابة والقراءة معاً وهو نائم في سريره، ونادراً ما كان يخرج من غرفة نومه!
وذات يوم جاء أحد الصحفيين ليقابله، وعندما أخبرته زوجته بذلك، قال لها: دعيه يدخل. غير أن الزوجة اعترضت قائلة: هذا لا يليق، هل ستدعه يقف بينما أنت نائم في الفراش؟ فأجابها مارك توين: عندك حق، هذا لا يليق، اطلبي من الخادمة أن تجهّز له فراشاً آخر.
هذه القصة القصيرة جداً، تلخص واقعاً فرضته ذهنيات لا يمكن أن ترى في الفن سوى عناوين تتصارع في حلبات خاسرة بكل المقاييس، فعلى أي أساس تريد أن تصبغ كلّ هذا البياض بلونك أنت؟!.
في طور التحديث..
لكلّ فنان أسلوبه في التفكير، وهذا يندرج فلسفياً في الإطار الطبولوجي (المجال) وحدود التفكير وحيّز الحياة والمدى الميتافيزيقي، ويحاول بعضهم تسويق نظرة أحادية مؤطرة ضمن مفاهيم مقولبة ومحدّدة بحلقات أغلبها مفقود وتطرح الكثير من التساؤلات وإشارات التعجب والاستفهام معاً. إذن إن لم تكن مثلي فأنا ضدك، والقضية هي صراع أضداد، لا بل تمظهر بقبول الآخر على أساس أرضية التجربة العمرية وعمقها، وربما كانت المسألة بحكم العادة.
هذا الاستفهامُ وذاك التعجّب وبعض النقاط والأقواس المائلة.. يأخذنا إلى قول برناردشو: “يوجد مأساتان في حياتنا، الأولى هي عدم حصولنا على ما نتمناه، والثانية هي حصولنا عليه”.