قراءة في رواية “الأمريكان في بيتي”
هويدا محمد مصطفى
إننا لا نكتب إلا عن أشياء تؤثر فينا وتترك في شخصيتنا آثاراً وتجعلنا نوليها أهمية لنمنحها بعضاً من وقتنا حتى نقرأها أولاً فنفهمها، وعلى ضوء ما ترك لنا الكاتب من مساحة للفهم والتأويل تنسابُ أحداث الرواية ليتداخل الواقع مع الخيال ضمن جدلية الرموز، وهذا ما قرأته في رواية الكاتب نزار عبد الستار “الأمريكان في بيتي” والتي تحمل بين طيات صفحاتها ١٧عنواناً، نذكر منها: “قطع البسكويت”، “رسالة توفيق”، “الأرنب الأعور”، “بيت المكاوي”، “الفرقة البيضاء”.
تستنهضُ رواية “الأمريكان في بيتي” الواقع بكل آلامه، وهي بمثابة وثيقة ذات مضمون واقعي وتاريخي، حاول الكاتب من خلالها كشف جوانب عديدة بشكل نص سردي عميق البنية، وبمشهد ينمّ عن فلسفة التاريخ وفهم عميق لبشاعة الاحتلال الأمريكي في العراق، فيأخذنا الكاتب إلى عالم التأويل والتفسير، حيث يختلط العرفان بالبرهان والحقيقة بالخيال، لتنعطف أحداث الرواية بعدة عناوين، وقد تميز الروائي عبد الستار بأسلوبه ولغة الحوار والتصوير المترع بالخوف، ليقول: “كانت الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، وقفت وسط الباحة الداخلية، أحمل الفانوس، يجذبني إيقاع الطريق على باب المطبخ، وتجرني كلمات حنان التي أخذت تضغط على أزرار الموبايل..”.
تساؤل مطروح ويتعثر في شهقة الانتحاب، ويتجاسر على الذات الداخلة التي يخرم أوصالها معوقات الألم والرهبة، ويبدو أن التحول المكاني الراسخ في قلب ورؤيا الروائي وروعة التكثيف وإبهاره الماتع في خلق صورة فنية تتفجر فيها طاقة اللغة والعبارات عبر رسائل مشفرة مسكونة بدلالات عديدة تتعدّد وتتشظى، كما تتشظى تلك الذات، فالكلمات تفيض بأنين وكأنه يصرخ في وجه الآخر، إنها بلاغة راقية ومدهشة في ترتيب الأحداث بذكاء الصياغة، ليقول: “وصلني صوت عنبر مخنوقاً ومتقطعاً، لكني فهمت منه أن شباباً يريدون اقتحام السينما، نقلتنا السوناتا البيضاء أنا ومناسك إلى الدواسة، لم أستطع تأمين الاتصال بتوفيق تركنا مناسك في السيارة وهرولنا أنا وحراسي إلى السينما، وجدت العشرات من الشباب يغطون البوابة وأحدهم يتكلم مع عنبر الذي وقف في المنتصف بعيداً عن السلايد الحديدي وهو يحمل بيده عصا طويلة، فرّق الحراس الشباب إلا أن أحدهم واجهني قائلاً نحن هنا للدفاع عن السينما”.
ونجد أن الرواية تمتزج فيها جمالية التعبير الخفي والعلني ورهافة السرد والمجاز بعيداً عن الحشو والتشتت من خلال فن إحداث المفاجأة المقنعة للقارئ، فالكلمات مستقاة من الحياة بنبض مثير وبراعة فنية باستعمال بساطة المعنى، فمزج بين الواقعية والخيال لتبدو كلّ لوحة سردية عالية المشهد وبمهارة المتمكن من الإبحار في أبعاد الزمن ينقلنا إلى ذلك التمازج الحسي والكوني للمادة المتشكلة على مساحة شاسعة من الخيال والحلم، لذا تشهد الرواية الإبداع والتمكن والقدرة الخلاقة على صناعة وتشكيل هياكل المحتوى ومضامينها على أبعاد دون تفاوت، ليقول: “بينما عنبر الغارق في عرق الخوف يفتح البوابة لنا، احتضنته وطلبت منه أن يهدأ”، نرى أن الروائي تفنن بدقة الوصف، فالحالة الوجدانية التي واءمت الفكرة المطروحة تشعرك وأنت تقرأها بأنك تحلق مرتفعاً لمستوى تتوهج فيه الحالة الإبداعية ضمن الإطار الزمني والمكاني.
الرواية تترك للقارئ فرصة التمتع برحلة خاصة، وتحكي كفاح مدينة عريقة هي الموصل، حيث تحاول قوى ظلامية سحقها وسحق روحها الحضارية، فيظل الكفاح مستمراً من أجل استرداد حقها، وجدت في الرواية نضوجاً إبداعياً وتراتيل ذكريات نسجت على شرفة الوطن، هكذا قرأت الرواية بشاعرية وهمس مليء بالانفعال عبر مفردات عذبة، مما يجعل القارئ أمام مصادر الدهشة، لنقول إن الروائي نزار عبد الستار يغدق بسخاء وأعاصير مشاعره المؤثرة التي باتت واضحة التوغل في عمق الأحداث التي تتحول إلى فضاء أوسع، هكذا صناعة الجمال المبتكر يكتسح ما قبله مهما كان نوعه، فيلقي بجديد ما ابتكر على منصة الخلق الفني ولذة الانجذاب والتدرج في التعبير من بنية إلى أخرى.