الولايات المتحدة غير مرتاحة
عناية ناصر
برزت في الأيام الأخيرة وجهة نظر جديدة مفادها أن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين غير مرتاحين لآفاق عالم متعدد الأقطاب، حيث بالكاد تعترف الولايات المتحدة بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، بينما في بعض الأحيان، يقوم حلفاؤها الأوروبيون بدعمها في ذلك ظاهرياً، كما لا تجد الولايات المتحدة خياراً لمحاربة هذا التوجه إلا عن طريق استخدام القوة العسكرية، والتي ستؤدي إلى إضعافها حتماً في جميع المجالات الأخرى، اقتصادياً ودبلوماسياً وسياسياً وفي العلاقات التجارية.
إن السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تلجأ إلى الرد العسكري هو أنها تملك أكبر ميزانية عسكرية في العالم، كما أنها قامت في الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية بإنشاء بنية تحتية عالمية للسيطرة على العالم وطرق التجارة المختلفة. لقد سمح الافتقار إلى أوراسيا المترابطة، من خلال البنية التحتية الأرضية للولايات المتحدة، بالسيطرة على محيط ما يسمى بجزيرة العالم، حيث تقبع معظم سكان العالم والثروة العالمية، إضافة إلى قواتها البحرية.
ومع ذلك بدأت مبادرة “الحزام والطريق”، على سبيل المثال، التي اقترحتها الصين في ربط أوراسيا، وهذا هو بالتحديد سبب خوف الولايات المتحدة، وشن إعلامها هجمات لا هوادة فيها عليها، بدءاً من إثارة الشكوك حول نجاحها، وحتى القيام بتوجيه اتهامات للصين، ووصفها بـ”الإمبريالية الصينية”. وفي هذا الخصوص اختتم رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا جولته التي قام بها إلى أوروبا، وأميركا الشمالية بالقمة التي عقدها مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، و تم من خلالها توقيع سلسلة من الاتفاقيات الدفاعية. والآن، تخطط اليابان لتكديس صواريخ بعيدة المدى قادرة على مهاجمة البر الرئيسي الصيني.
يظهر هذا التصرف أن الولايات المتحدة وحلفاءها يبذلون كل ما في وسعهم للحفاظ على موقعهم الاستراتيجي على أطراف أوراسيا، لكن وعلى الرغم من ذلك ترى الولايات المتحدة أن الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا بالغة الأهمية، والتي تمتد عبر معظم القارة الأوروبية الآسيوية، تمثل تهديداً كبيراً لهذا الأمر.
تظهر السيناريوهات المختلفة التي تتبعها الولايات المتحدة أنها ستخسر حرباً مع كلتا القوتين في حال بدأت صراعاً معهم في نفس الوقت، مما يخلق مشكلة تزامن خطيرة لواشنطن، ولهذا السبب تحاول الآن إثارة المنافسة من خلال معارضة روسيا بقوة من خلال الصراع في أوكرانيا مع بناء البنية التحتية القادرة على احتواء الصين عسكرياً، وتستخدم العقوبات الأحادية كإجراء لمحاربة خصومها الجيوسياسيين، وفرض إرادتها على الخصوم، حيث تجلى، من خلال الصراع في أوكرانيا، أن الجهود المبذولة للقيام بذلك ضد روسيا باءت بالفشل، وقد ترجم ذلك من خلال تقلص القوة الاقتصادية والتجارية للولايات المتحدة.
وبالنظر إلى سلاسل التوريد التي لا غنى عنها في الصين، فإن غالبية المجتمع الدولي لم ولن تنضم إلى العقوبات التي يقودها الغرب على بكين. ومن وجهة النظر هذه، فقد فازت الصين بالفعل بأهم مجالات الصراع الحديث، وهي في وضع استراتيجي أفضل بكثير من الولايات المتحدة، الأمر الذي يشير إلى أن بكين ستكون واحدة من عدة نقاط قوة في عالم متعدد الأقطاب.
ومع استمرار التكامل السياسي لأفريقيا، من خلال الاتحاد الأفريقي، وتجدد الدعوات لوحدة أمريكا اللاتينية، والصفقات الاقتصادية في الشرق الأوسط، والتوجه المستمر شرقاً للمركز المالي العالمي، كل ذلك يكشف عن مراكز القوة الجديدة، وبدرجة أقل أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا وآسيا وأمريكا الشمالية.
ونتيجة لكل ذلك لا ترى الولايات المتحدة من خيار أمامها لمقاومة ذلك إلا من خلال جيشها، وهذا الاحتمال يهدد ويعرض بلا شك السلام العالمي للخطر. لقد كانت لحظة أمريكا أحادية القطب قصيرة، وهي من اللحظات النادرة في التاريخ. من ناحية أخرى، تعد عصور تعددية الأقطاب هي القاعدة في كثير من الأحيان. وبالنظر إلى إجماع ما بعد الحرب المتضمّن في ميثاق الأمم المتحدة، فإن العالم الناشئ متعدد الأقطاب سيكون أكثر سلاماً من أي عالم آخر سبقه إذا كان متمسكاً بقيمه المتفق عليها.