الأنساق الثقافية ومُضمَرات النص الأدبي
أمينة عباس
على الرغم من أكاديمية العنوان الذي اختاره فرع القنيطرة لاتّحاد الكتّاب العرب للندوة التي أقامها مؤخراً، وهو “الأنساق الثقافية ومضمرات النص الأدبي”، بمشاركة الناقدين د. أحمد علي محمد وأحمد علي هلال، إلا أن مدير الندوة (رئيس الفرع) د. جمال أبو سمرة أكد مدى الحاجة إلى مثل هذه العناوين رغبةً في تقديم ما هو غير عادي لتحريض العقل الذي استكان إلى ما هو عادي، وبالتالي فتح الأبواب الأكاديمية اتجاه النقد الثقافي والأنساق الثقافية التي هي أنظمة مكونة من العلامات، سواء كانت رمزية أو دينية أو شعبية أو أسطورية أو سياسية أو اجتماعيّة، تنصهر جميعها داخل النص الأدبي، فيظهر منها جزء ويختفي أو يضمر جزء آخر، مبيناً أن النقد الثقافي لا يهتمّ فقط بالكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة وتأويلها، بل يبحث في الأنساق الثقافية الظاهرة باعتبارها مرحلة أولى للبحث في الأنساق المضمرة التي قد تتعارض مع الأنساق الظاهرة وتنافيها.
النقد الثقافي.. وآفاق القراءة النقدية
وتناول د. أحمد علي محمد في مشاركته النقدَ الثقافي الذي هو وليد مرحلة ما بعد الحداثة، والذي قام على تشريح النصوص وتفكيكها واكتشاف أنظمتها ضمن رؤية وظيفية بغية نقدِ المؤسسة الثقافية المنتجة للخطاب لما لها من تأثير سلبي على أوضاع التلقي الأدبي، مبيناً أن مصطلح النقد الثقافي ارتبط بالناقد الأميركي فنسنت ب ليتش الذي أصدر أول كتاب في هذا المجال، عام 1992، واهتمّ بالتاريخ والسوسيولوجيا والسياسة ومناهج النقد الأدبي، واعتمد على التأويل والتفكيك واستقراء التاريخ لكشف مضمرات الأنساق الثقافية من جهة مضامينها ومرجعياتها ومرتكزاتها الأيديولوجية، متأثراً في ذلك – برأي محمد – بكتابات رولان بارت وجاك دريدا وميشيل فوكو، وغيرهم، منوهاً بما طرحه الناقد السعودي عبدالله الغذامي عام 1997 عن فكرة موت النقد الأدبي، ليتسنى للباحثين الوقوف على مضمرات النصوص الأدبية وتحليل أنساقها وبروز التأمل الجديّ في الأنساق العربية قديماً وحديثاً، بعيداً عن التأثير العاطفي أو الاستجابة الانفعالية، وظهور الحاجة البحثية المعرفية لكشف خلايا النسيج الثقافي، مع إصدار كتابه الثاني “النقد الثقافي” عام 2000.
وأوضح محمد أن التشاركية السريعة لما بعد الحداثة التي يمثلها كتاب الغذامي لم تقم على المثاقفة ولا على استقبال المنجز ما بعد الحداثي عن طريق الترجمة، وأن هذا الكتاب هو أول كتاب في اللغة العربية يتناول النقد الثقافي وينتقل من أفق الدراسات الثقافية إلى منهجية جديدة تقوم على تحليل الأنساق، ولكن على سمت الدراسات الغربية والأميركية بالتحديد، وهذا نوع من الامتصاص الثقافي العصري، وهو الأمر الذي حدث عندما بدأ العقل العربي بتلقي الحداثة الغربية التي جاءت مع ظهور مجلة “شعر” عام 1957 حيث بيَّن الشاعر الحداثي أنسي الحاج في مقدمة ديوانه “لن” تبنّي الغذامي ما ذهب إليه ليتش دون أن يقرّ بشيء من التبعية، مكتفياً بالإشارة إلى النقلة المعرفية التي أحدثها حول نقد النصوص وفق منهج مترامي الأطراف، وهذا لم يمنع الغذامي من الإشادة بما قام به ليتش عندما انضمّ إلى منهج آراء بارت وفوكو في توسيع مفهوم الأنظمة العقلية واللاعقلية، ومن ثم استعماله هذا المفهوم كبديل لمصطلح الأيديولوجيا، وهدفه من ذلك -برأي محمد- توسيع النقد الثقافي في التناول الكليّ للنص. وختم د. أحمد علي محمد كلامه بنموذج تطبيقي اختاره لاستخلاص الأنساق الثقافية ووقع اختياره لمضمرات النص في معلقة زهير بن أبي سلمى “موقف رحلة الظعائن” لقدرتها على أن تستجيب لأي مصطلح جديد.
صورة الثقافة ومكوناتها
ورأى الناقد أحمد علي هلال أن الوعي الاصطلاحي في الأنساق الثقافية سيبدو مشروعاً، ولاسيما أن استدعاء ثقافة النسق كمرجعية سيحيل بالضرورة إلى صورة الثقافة ومكوناتها وتشكيلاتها وخطابها، مبيناً أن النسق هو العقد الذي يدركه من عاش في بيئته – كما يصطلح الناقد محمد مفتاح – وأن ثقافة الأنساق سعي فكري من أجل فهم هذا العالم واستكشاف للثقافة كبناء مشكل من المعاني والممارسات، مؤكداً أنه منذ أن أعلن الناقد الفرنسي رولان بارت موتَ المؤلف تكرّس النقد الثقافي وارتبط بالتحليل الثقافي والنصوصي المعاصر كالبنيوية وما بعدها وما بعد الحداثية، وأن مضمرات النص الإبداعي ستتجلى في آلية تحليله وفي منهجية ثقافية ستساعد على إبراز علاقات لم يكن بالإمكان إبرازها لولاه، وبهذا المعنى فإن مصطلح النسق المضمر سيكون في صلب اشتغال النقاد ومشروعاتهم، وستمثل الأنساق الثقافية المهيمنة تحدياً لهم، وخاصة تلك التي تتوسل بالجمالي الأدبي وحسب. كما أكد هلال أن الكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة في الخطاب الثقافي بعامة سيعود بالضرورة إلى اعتبار النص رسالة حاملة للعديد من الأنساق المختلفة باعتبار أن الثقافة نتاج تفاعلات بين الأشخاص، فلكل مجتمع ثقافة معينة لحمل أنساق جمالية أو سواها تختفي وراءها أنساق مضمرة، مشيراً إلى أن سؤال هل يشكل النقد الثقافي بديلاً عن النقد وهو هاجس النقاد الثقافيين، سيكون مثار أسئلة الإبداع قبل أسئلة النقد الباحثة فيما وراء النص والخطاب والتشكيلات المسكوت عنها.