سأم
عبد الكريم النّاعم
سئمَ الشيء، ملّه، دوافع السأم متعدّدة، ولستُ بصدد استعراضها، أو عدّها، وإنّما أنا بصدد خطورة السأم النفسيّة، والاجتماعية، والتعرّض لبعض مصادرها، لعلّ أوّل ما يخطر بالبال عن السأم، لاسيّما لدى من لديهم علاقة بالثقافة، بيت الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى القائل:
سئمتُ تكاليف الحياة وَمَن يعِش ثمـــانين حولاً، لا أبا لك، يسْـــأمِ
فسأمه “تكاليف الحياة”، لا جوهرَ الحياة، فقد حُبّبتْ لنا الحياة لأسباب متعدّدة تتعلّق بمهمّة الاستخلاف الإلهيّ فوق ظهر هذا الكوكب، من منظور الاستقامة، والبناء، والمهام الروحيّة والماديّة المُتضمَّنة في الشرائع الإلهيّة، والتي غايتها الرقيّ بالإنسان، وحفظ كرامته، والدّفاع عن هذه الكرامة، “يا آدمُ إنّا جعلناكَ خليفة” – قرآن كريم-، وليس المقصود آدم أبا البشريّة كلّها، بل آدم النّوع البشري بمختلف ألوانه وأجناسه، وأممه، وطوائفه، وهذا يجعل الأمانة أثقل كلّما ارتفعت مهمّة من يتسلّم مسؤوليّة اجتماعية، وإذا كان الفرد مسؤولاً عن أعماله بمفرده في يوم الدّينونة، فإنّ مسؤوليّة مَن يكون في موقع القدرة على الفعل تكون أكبر، لاسيّما ما يخصّ منها المسؤولية العامّة المتعلّقة بضرورات الحياة، بما هو راع، “كلّكم راعٍ وهو مسؤول عن رعيّته”.
إذن ابن أبي سُلمى ملّ التكاليف، وهي بالتأكيد تكاليف عجْز السنوات التي هي ثمانين حولاً، ولقد تطرّق لهذا الموضوع أبو العلاء المعري، وهو ينطلق من الشيخوخة حين قال:
وإذا الشيخ قال أفٍّ فمـــا ملّ حياةً إنّما الضعفَ مـلّا
وهو كما ترى ينطلق من رهق الشيخوخة، والذي يعرفه مَن وصل إلى هذا السنّ، وهذا يستدعي بشكل آليّ بيت الشعر القائل:
لَذّةُ العيشِ صحّةٌ وشبابٌ فإذا ولّيا عن الغمــرِ ولّى
وليس القصد أن أخوض في ذلك، وإنّما أردتُ الوصول إلى أنواع من السأم الذي يضرب النّاس إثر كوارث تزلزل الحياة الاجتماعيّة، كالذي حدث لنا في سوريّة، ولا شكّ أنّ ثمة شعوباً عانت ذلك إثر ما أصابها من كوارث.
الفقر أو الإفقار الذي يصيبُ الناس يجعلهم “يسأمون” من الحياة، ليس لأنّ مَن يُصاب بذلك لا يحبّ الحياة، بل هو لا يجبّ هذه الحياة التي أوصلتْه إلى هذه الدرجة من الفقر، والحاجة، والإحساس بالعجز.
يريد أن يحصل على ثلاث وجبات من الطعام له ولعائلته، فيعجز..
يريد أن يكسو أبناءه بما يردّ عنهم غائلة البرد والحر، وبشكل لا يُخجل منه، فيعجز..
يريد أن يشعر أنّ كرامته مصونة في وطنه، عملاً، وتعليماً، وطبابة، وتكافؤ فرص، وأنّه مطمئنّ إلى مستقبله ومستقبل أبنائه، فيعجز..
يريد أنْ لا يجتاحه البرد والصقيع في الشتاء، ولا يحرقه الحَرّ في الصيف فيعجز..
كيف مَن يكون هذا وضعه لا “يسأم” الحياة، وربّما رأى في الموت راحة من هذا الجحيم المحيط به من كلّ الجهات.
ثمّة سأم من نوع آخر هو سأم المُترفين، الذين لا يعجزون عن الوصول إلى شيء من متارف الحياة إلاّ نالوه، فهم في شبَع لدرجة التّخمة، لا يشتهون شيئاً من ملاذّ الدنيا إلا كان بين أيديهم، بفضل أموالهم التي لا يعرفون أين يصرفونها، ولا كيف، وهي أموال، في الغالب، لم تأتهم عن طريق الحلال، الحلال بمعناه الشرعي، أو بحسب ما تواضع عليه النّاس.
يقول الإمام عليّ (ع): “ما مُتِّع غنيّ إلاّ بما جاع به فقير“، وهذا يعني أن عشرة بالمائة لا غير هي المُتمتّعة بلذائذها، ومَباذلها، مقابل تسعين بالمائة صار تأمين اللقمة اليوميّة الكافية، المحترمة من المستحيلات في حياتها، ومّما يدخل في باب الأحلام التي لا تتحقّق!.
aaalnaem@gmail.com