شاعرات لا يذكرهن أهل الشّعر!
نجوى صليبه
يزخرُ تاريخ الأدب العربي في مختلف عصوره ومراحله بأسماء شاعرات كان لهنّ بصمةٌ مميزةٌ في أيّامهن وأيّام تلتها لكن ليس لفترة طويلة، فقد تمّ تغييبهنّ لأسباب إن أردنا معرفتنا نحتاج لدراسات عميقة ومطوّلة. ومع الوقت نسي كثير من الشّعراء والشّاعرات أسماءهن لمصلحة شعراء تبنّوا كلّ ما نظموه وتعّمقوا في تفاصيله وأقاموا مهرجانات تحمل أسماءهم، وكتبوا عنهم ما كتبوه من دراسات وبحوث، أو مديح وهجاء، وبعضهم سرق ما سرق، أو اقتبس ما اقتبس أو “تناص ما تناص”.. وبحسن نيّة نقول إنّ نسيانهنّ كان سهواً وليس عمداً، وربّما لم يصل قصيدهن إلى مستوى يراه بعض الشّعراء حديثي العهد والمحدثين والمحدّثين جيّداً، مع العلم أنّ البعض يصفّق لأي خاطرةٍ أو كلمةٍ تكتبها “مغناج” تحت مسمّى الشّعر، لا بل ويقدّم فيها قراءات نقدية مطوّلة، يرافقها غمز ولمز العارفين!.
ومن الشّاعرات المغيّبات أو المنسيات، دختنوس بنت لقيط بن زرارة الدارمية شاعرة جاهلية من بني تميم، نظمت الهجاء والمديح والرّثاء، قيل إنّ أبيها كان يأتي كسرى فيحبوه ويكسوه ويكرمه، وكان لملك الفرس بنت تدعى دخترنوش -أي بنت الهنيء- فعرّب لقيط الاسم وسمّى ابنته على اسمها، وكانت ذات جمال أخّاذٍ وبهاء ودهاء، ونذكر قولها في رثاء أبيها:
بكر النعيّ بخير خندف كهلها وشبابها وأضرّها لعدوّها وأفكها لرقابها
وقريعها ونجيبها عند الوغى وشهابها ورئيسها عند الملوك وزين يوم خطابها
وأتمّها نسباً إذا رجع إلى أنسابها فــرعٌ عمودٌ للعشيرة رافعٌ لنصابها
كالكوكب الدرّيّ في ظلماء لا يخفى بها عبث الأغرُّ به وكلُ منيّةٍ لكتابها
فرّت بنو أسدٍ فرار الطير عن أربابها لم يحفظوا حسباً ولم يأووا لفيء عقابها
عن خيرها نسباً إذا نُصّت إلى أَنسابها وهوازنٌ أصحابهم كالفأر في أَذنابها
ونذكر أمّ الضّحاك المحاربية -بني محارب- شاعرة جاهلية كانت مولّعة برجلٍ من بني الضّباب، وظلّت تناجيه حتّى بعد طلاقهما، تقول:
هل القلب إن لاقى الضّبابي خالياً لدى الرّكن أو عند الصّفا متحرج
وأعجلنا قرب المحل وبيننا حديثٌ كتنشاج المريضين مزعج
حديثٌ لو أنّ اللحم يصلى بحرّه طريّا أتى أصحابه منضج
وتقول أيضاً:
تعزيت عن حبّ الضّبابي حقبة وكلّ عمايا جاهلٍ ستثوب
يقول خليل النّفس أنت مريبة كلانا لعمري قد صدقت مريب
الجليلة بنت مرّة بن ذهل بن شيبان البكرية شاعرة جاهلية أيضاً، وربّما كان لها نصيب في الشّهرة أكثر من غيرها بسبب المسلسل التّلفزيوني “الزّير سالم”، فهي أخت جسّاس قاتل زوجها كُليب، والقائلة:
فعل جسّاس على وجدي به قاطعٌ ظهري ومُدنٍ أجلي
لو بعين فُقئت عيني سوى أختها فانفقأَت لم أحفل
تحمل العين قذى العين كما تحمل الأُمّ أذى ما تفتلي
يا قتيلاً قوّض الدّهرُ به سقف بيتيّ جميعاً من عل
ورماني فقده من كثبٍ رمية المصمى به المستأصل
خصّني فقد كُليب بلظى من ورائي ولظى مستقبلي
ليس من يبكي ليومين كمن إنَّما يبكي ليوم ينجلي
ونذكر أيضاً البسوس بنت منقذ التّميمية خالة الجليلة، التي أشعلت حرباً دامت أربعين عاماً عُرفت باسمها من أجل ناقتها “سراب” التي قتلها كليب، فقالت البسوس شعراً أثار جسّاساً وقتل كليباً، ونذكر من شعرها الذي سمّاه العرب “أبيات الفناء”:
لعمرك لو أصبحتُ في دار منقذٍ لما ضيم سعدٌ وهو جارٌ لأبياتي
ولكنَّني أصبحتُ في دار غربةٍ متى يعد فيها الذئبُ يعدُ على شاتي
فيا سعدُ لا تغرُر بنفسك وارتحل فإنَّك في قومٍ عن الجار أموات
ودونك أذوادي فإنّي عنهم لراحلةٌ لا يفقدُوني بنياتي
وللأسف بعض الشّاعرات نسي الدّارسون قصيدهم واهتمّوا فقط بما غزله الشّعراء العاشقين لهنّ، نذكر على سبيل المثال بثينة بنت حبا بن ثعلبة العذرية، شاعرة اشتهرت بحبّها لجميل بن معمر المعروف بـ”جميل بثينة” وبعد وفاته رثته كثيراً، لكنّها لم تعش طويلاً، تقول:
توعدني قومي بقتلي وقتله فقلت: اقتلوني وأخرجوه من الذّنب
ولا تتبعوه بعد قتلي أذيةً كفـى بالذي يلقـاه مـن شــدّة الحــبّ
ومثلها ليلى العامرية شاعرة عربية من قبيلة هوازن، شهدت قيام الدّولة الأموية، وهي ابنة عم قيس بن الملّوح الذي هام فيها حبّاً، وكانت تبادله الحبّ عشقاً، تقول:
كلانا مظهرٌ للناس بغضاً وكلٌّ عند صاحبه مكينُ
تبلّغنا العيون بما أردنا وفي القلبين ثمّ هوىً دفينُ
وأسرار اللّواحظ ليس تخفى وقد تغري بذي الخطأ الظنونُ
وكيف يفوتُ هذا الناس شيء وما في الناس تظهرهُ العيونُ
وهي القائلة أيضاً:
باح مجنونُ عامر بهواهُ وكتمت الهوى فمتّ بوجدي
فإذا كان في القيامة نودي من قتيلُ الهوى تقدّمت وحدي
وأمّا ليلى الأخيلية فهي بنت عبد الله بن الرّحال بن شداد بن كعب الأخيلية من بني عقيل من عامر بن صعصعة من هوازن، شاعرة عاصرت صدر الإسلام والعصر الأموي عرفت بعشقها المتبادل مع توبة بن الحمير، لكن والدها زوّجها من أبي الأذلع، وتذكر بعض المراجع أنّ ليلى الأخيلية شاعرة فاقت أكثر الفحول من الشّعراء، وشهدوا لها بالفصاحة والإبداع، وأنّ من بين الذين أعجبوا بشعرها الفرزدق وأبو نوّاس وأبو تمام، كيف لا وهي القائلة:
نحن الأخايل لا يزال غلامنا حتى يدبّ على العصا، مشهوراً
تبـكي الرّماح إذا فقدن أكفنا جزعاً، وتعرفنا الرّفاق بحـوراً
يكفينا ما ذكرنا من أمثلة، لكن لا يكفينا أن ننوّه بالموضوع نظراً لأهميته ودقّته، وفي الوقت ذاته ندرة المراجع التي تبحث في تجارب شاعرات كان لهنّ مكانتهنّ الاجتماعية والشّعرية عند العرب، بل وتضارب المعلومات واختلاف بعض المفردات الواردة في مرجع دون غيره، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ورد قول الجليلة في أحد المراجع “فعل جسّاس على وجدي به” وفي مرجع آخر “فعل جسّاس على ضنّي به” وغيره الكثير.