من إشكالات الخطاب والفعل
د. عبد اللطيف عمران
بعكس السياسيين، يكاد كبار المفكرين في العالم يجمعون اليوم على أن العالم يمضي في مسار إشكالي يصعب، بل لا يمكن، التنبؤ به، وهم يتوقّعون أن السنين القليلة القادمة ستكشف مستقبلاً خطيراً قادماً للأوضاع الإقليمية والدولية لم يكن بالحسبان لا بمكوّناته ولا بخرائطه الجيوسياسية، لا بخصوماته ولا بتحالفاته.
لا شك أن الانثروبولوجيين يقولون: لا جديد في هذا، فتاريخ الشعوب والمجتمعات والدول والأمم يمضي هكذا منذ عصور ما قبل التاريخ، فهذا ما تبيّنه الأساطير والأديان وبعض الكتب السماوية.
لكن ظهور أكثر من شكل للحروب خلال عقدين من مطلع الألفية الثالثة يوضّح أن معطيات ثورة المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا الرقمية جعلت في زمن قصير من الفعل البشري الفردي والجمعي مارداً غير تقليدي، لذلك نلاحظ، وسنلاحظ أكثر، أن حروب اليوم والمستقبل قد لا تبقى عسكرية واقتصادية تقليدية، بل تتجه لتكون إيديولوجيّة وثقافيّة (الحروب الناعمة) تستخدم فيها ألوان عديدة من الخطاب الاستفزازي والتحريضي لإشعال نيران قد لا تُرى إلا في وقت يعزّ فيه إطفاؤها، بل تفسيرها والتعامل معها، ما يعني أن الخطاب بأنماطه وبنيته ووظيفته غدا سلاحاً صارماً.
في هذا السياق من إشكالات الخطاب والفعل يؤكد المفكر الفرنسي إيمانويل تود في آخر حوار طويل معه في صحيفة لوفيغارو أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل… و(أن الولايات المتحدة في مرحلة تدهور طويل الأمد، وهي قد قررت – على خلفيّة نفوذها المتضائل في العالم – الضغط من أجل تأثير أكبر في محمياتها الأصلية التي اكتسبتها بعد الحرب العالمية الثانية بعبارة أخرى أوروبا واليابان).
بالمقابل، نقرأ للرفيق غينادي زوغانوف رئيس الحزب الشيوعي الروسي منذ أسابيع في صحيفة برافدا كلاماً يقول فيه: (إن الراية الشيوعية الحمراء يمكن أن تعود علماً رسمياً لروسيا، فاللون الأحمر كان على الدوام رمزاً لروسيا وثقافتها، فهو حالة ذهنية وأخلاقية ومعنوية تتوافق مع روحنا وثقافتنا.
وفي الأسبوع الماضي أدان في لقاء له مع وكالة سانا (الوباء الانكلوساكسوني) وعدوان الناتو الجديد والعقوبات والإجراءات الاقتصادية القسرية التي تفرضها البلدان الغربية على روسيا وسورية والبلدان الصديقة.
هذا يعني أن هناك في العالم من لايزال يؤمن بأن التاريخ يكرر نفسه، وهناك أيضاً من يؤمن بأن التاريخ لا يكرر نفسه، وقد تكون الثانية – لا – هي الأسطع في التاريخ وفي التأريخ أيضاً، وبمعنى أن الثوابت والمبادىء كقيم وحقوق لا تبقى جامدة صلبة صمّاء، إذ لا بد من إدراك المتغيّرات في عصر المتغيّرات هذا، وإن ما طرحه الأجداد من مقولات، وقاموا به من أفعال، ومن أهداف ووسائل لتحقيق هذه الأهداف يصيبه التغيير والديناميكية في هذه الوسائل على مستويي التفكير والتطبيق: الخطاب والفعل. فلا يصح القول إن الحرب في هذه المنطقة وعليها، وتحديداً في سورية لم ولن تفرض مراجعات وإعادة حسابات، فتبقى المجتمعات المحلية، والمؤسسات الفرعية والمركزية، والحكومة تعلّق على مشجبها، وعلى سرديّة العقوبات والحصار والاحتلال والمؤامرة… مسوغات غياب نهج الحلول والبدائل، والمبادرة الفردية والجمعية والمؤسساتية، وضعف إمكانية الانفتاح والاستفادة من جميع الفرص المتاحة، وتحويل غير المتاحة منها إلى متاحة سواء في الأداء السياسي والاقتصادي والإداري والثقافي.. ومن هذا القبيل يمكن التعامل مثلا مع تكرار الوصف ب(المقدس) في أدبيات البعث الأولى.. فقد أصاب الملل الشارع والرأي العام من الطروحات التقليدية المستدامة، بعد أن خلّفت الحرب مواقف وسياسات، وتحالفات وخصومات مفاجئة لم تكن بالحسبان، فلم يعد أحد مرتاحاً لا محلّياً، ولا إقليمياً ولا دولياً، وقد كان السيد الرئيس بشار الأسد نبّه إلى هذا وأوضح منذ البداية أن تداعيات الحرب في سورية وعليها ستكون أشبه بلعبة الدومينو، وهذا لا ولن يذهب بعوامل القوة والصمود التي ضربنا بها مثلاً وصرنا لها شاهداً.
وبمعنى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) فلا بد من الانفتاح على خطاب وفعل مغايرين، وليس مناقضين. فالانفتاح المنشود هو الاستعداد للقيام بكل ما هو ممكن وضامن للثوابت الوطنية السورية، ولمصالح الوطن والشعب بعيداً عن اللغة المشحونة بالسلب، والصراخ الأجوف، بعد أن تداخلت تداعيات الحرب على سورية، وامتدت في الزمن لتتحوّل إلى مفصل في الصراعات الإقليمية والدولية، وإلى مدماك أساسي في بناء نظام دولي جديد منشود، ما يتطلب ابتداء من الآن العمل بالتوازي على تطهير الأرض والفكر من أكثر من عدو، وعلى الشروع بعملية إعادة الإعمار المادية والمعنوية، ولو كانت الشروط غير مستكملة، فعملية (حرق المراحل) ضرورية.
وبالنهاية فإن أي انفتاح لن يكون إلا في ظروف الانفتاحات والمتغيرات في المواقف التي تشهدها المنطقة، خاصة مؤخراً، وهي تندرج في سياق لجم التداعيات المتوالدة عن استمرار هذه الحرب، وبما يمكّن من الحفاظ على ما أنجزه صمود شعبنا وجيشنا وقائدنا، وذلك في سبيل استكمال باقي أهدافنا في الحفاظ على سورية: المكانة والدور.