مرحباً بالصباح
سلوى عباس
في الساعة السابعة من صباح الثالث من شباط عام 1947 انطلقت عبارة: “هنا الإذاعة السورية من دمشق.. إذاعة كلّ العرب”، بصوت الإعلامي يحيى الشهابي معلناً عبرها انطلاق أثير إذاعة دمشق التي شكلت منبراً وطنياً وقومياً، وأداة تثقيف وتوعية في اعتمادها نهجاً يعكس نبض الشارع العربي، ويتبنى هموم المواطن، ويلامس أوجاعه، واستطاعت هذه الإذاعة عبر السنوات الأولى أن تواكب الأحداث العالمية والعامة والمفصلية في سورية والوطن العربي، واستقطبت المواهب الغنائية، واهتمّت بالتراث الغنائي السوري والعربي وساهمت بازدهار الأغنية العربية، فأطلقت أسماء عديدة في عالم الغناء العربي: ماري جبران، نجيب السرّاج، رفيق شكري، فايزة أحمد، وعبد العزيز محمود.. وغيرهم، ومن الأسماء العربية: نهاوند، وديع الصافي، عبد الحليم حافظ، الذي حمل أغنية “صافيني مرة” وجاء بها لإذاعة دمشق لبثها أول مرة.
ولأن حاسة السمع هي الأقدر على تنمية الخيال ورسم الصور للكلام المنقول عبر جهاز الراديو، أقبل أهل دمشق على هذا الجهاز، يتجمعون في المقاهي ليستمعوا إليه، إذ كان عدد أجهزة الراديو يومها محدوداً لا يتوفر في البيوت، ولازالت حتى الآن تغازل صباحاتنا ببرامجها المنوعة وعبارة “هنا دمشق- إذاعة الجمهورية العربية السورية” ونشيد “أقسمت باسمك يا بلادي فاشهدي” الذي اعتمدته هذه الإذاعة عام 1955، مقدمة لنشرات أخبارها، تطرق أسماعنا بكثير من الحب والنشوة الغامرة، هذه الموسيقا التي كانت ترافق استيقاظنا الصباحي واستعدادنا للذهاب إلى مدارسنا ونحن صغار، وحتى اليوم لازال هذا النشيد مرافقاً للإذاعة معلناً بدء برامجها في السادسة والربع صباحاً بالنشرة الإخبارية الموجزة، لتتبعها فقرات منوعة كبرنامج “مع الفلاحين في حقولهم”، يليه المحطة الأجمل التي رافقت صباحاتنا عبر برنامج “مرحباً يا صباح”، هذا البرنامج الذي كان يرتب لحظات يومنا وانطلاقتنا، ويمنحنا حالة من الحبور لا توصف، وصوت المذيعين منير الأحمد ونجاة الجم يدعونا للحياة، وهما يحتفيان بالصباح. ولازلت حتى الآن ما إن أسمع موسيقا أغنية “بقطفلك بس هالمرة” لسيدة الصباحات فيروز إلا ويتبادر لذهني أنها ستكمل بعبارة “مرحباً يا صباح”، حيث كانت هذه الموسيقا تمثل شارة البرنامج.
هكذا تنسابُ إلى ذاكرتي اللحظات التي عشتها مع هذه الإذاعة نسيمات حملت عبق أيام شكّلت أجمل مراحل عمري، فتعيدني بالذاكرة إلى زمن بعيد يحمل الكثير من الجمال والبساطة والعفوية التي كانت عنواناً لذاك الزمن، ومازالت هذه الإذاعة تحافظ على هويتها النابضة بالحب والجمال كما عهدناها، مع مواكبتها التطور الذي يفرضه تسارع العصر، ولتبقيني اللحظات التي أستمع فيها إلى الراديو على حافة الحلم أسبح في محيط مرحلة من العمر كانت الأسمى والأجمل، مرحلة كان الراديو رفيقاً أنيساً ووديعاً، هذا الفن الذي عاد يأخذنا إلى حالة من التألق والحبور، ويبتكر لنا وجبات متنوعة من الحياة، في زمن أحوج ما نكون فيه لمساحة من الحب والأمل، مساحة نعود فيها إلى أنفسنا نستعيد من ذاكرتنا لحظات عبرت وتحولت إلى ماضٍ لازلنا نحتفي به ونهرب إليه من تعب الحياة.
اليوم حيث تحتفلُ إذاعة دمشق بإيقاد شمعتها السادسة والسبعين، حضرت تلك الذكريات التي عشتها وعاشها الكثير من السوريين الذين كان الراديو رفيقهم، هذه الذكريات استحضرتها كجزء من تاريخ إذاعة أحببناها ولازالت تعني لنا الكثير، هو الحلم في ربيعه الأبهى يشعّ من هذا المنبر الغالي الذي شكل ذاكرتنا وكان وسيلتنا للمتعة والفائدة، منبر كان ولازال يعبر عنّا ويشكل وسيلتنا في التواصل مع الآخرين، فكل عام وأسرة إذاعة دمشق مدراء وعاملين بكامل ألقهم وعطائهم، وكل عام وسورية المنارة الأمل المشرق الذي نجتمع على محبته.