العولمة الليبرالية.. هل تنتهي بنهاية عالم القطب الواحد؟
د. رحيم هادي الشمخي
كاتب عراقي
من يطرحون هذا السؤال يفترضون أن إزاحة الولايات المتحدة عن هرم الزعامة العالمية سيستدعي بالضرورة نهاية حقبة العولمة الليبرالية، تماماً كما كانت نهاية الكينزية (نسبة إلى جون مينارد كينز) التي انتهت مع انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل تسيعينيات القرن الماضي، والتي كانت مُعدّة لمواجهة “الخوف” من الشيوعية، أو بعبارة أدق مواجهة السوفييتية؛ علماً أن الكينزية التي تم اعتمادها بعد اتفاقات بريتون وودز، إبان الحرب العالمية الثانية، سبق أن أثبتت فشلها بمواجهة عدة أزمات خطيرة -ونحن هنا نتحدث عن أزمات العالم الرأسمالي- ما سمح لليبرالية بأن تتوسع شيئاً فشيئاً، وعندما انهارت الكينزية كانت الليبرالية بكامل استعدادها للحلول محلها وبصورة قادت معها العالم الرأسمالي وزعيمته الولايات المتحدة الأميركية إلى كرسي السيطرة العالمية، فيما بات يُعرف بعالم القطب الواحد.
والسؤال الموازي الآن: هل هناك بديل عن العولمة الليبرالية؟ بمعنى هل لدى العالم البديل (العالم متعدّد الأقطاب) الذي سيحلّ محل عالم القطب الواحد نظام اقتصادي بديل جاهز؟ أم سيكون هناك نظام اقتصادي عالمي متعدد الأقطاب؟ وماذا بشأن النظريات التي يتم إطلاقها حول العولمة الليبرالية المفيدة؟.
فعلياً، ليس هناك من إجابة محددة، حيث إن مخاض النظام العالمي الجديد لا يزال في منتصف الطريق -إذا جاز لنا التعبير- وعالم القطب الواحد ما زال يقاوم السقوط، ما يستدعي المزيد من الأزمات والحروب والصراعات العالمية، قبل أن يضع هذا المخاض حِمله، ونعرف على أي نظام سياسي- اقتصادي- عسكري، سيرسو عالمنا.
مع ذلك، هناك اعتقاد واسع بأن العولمة الليبرالية ستحافظ على وجودها، ولكن ليس على الطريقة الأمريكية، على اعتبار أنها ليست شراً مطلقاً، وإنما الشر كان في الولايات المتحدة الأمريكية، وفعلياً كانت لها فوائد لا يمكن نكرانها، فإذا ما تمّت إزاحة الولايات المتحدة، يمكن الحديث عن العولمة الليبرالية المفيدة حتى وإن كانت مرتبطة بالنظام الرأسمالي.. كيف؟.
في حزيران الماضي، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: “إن الغرب الرأسمالي ينطلق في ممارساته من أنه لايوجد بديل عن نموذج العولمة الليبرالي. هذا النموذج هو نسخة محدثة عن الاستعمار الجديد، عالم على الطراز الأمريكي، عالم للنخبة حيث تنتهك حقوق الآخرين”.
طبعاً، كان الرئيس بوتين يتحدث عن العولمة الليبرالية بصورتها المتوحشة التي وصلت إليها خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث لا حدود ولا ضوابط ولا روادع لانتهاك حقوق العالم غير الرأسمالي، دولاً وشعوباً، حتى وصل العالم إلى حرب أوكرانيا التي يُنظر إليها على أنها البداية العملية لمسار الافتراق بين عالمين، حيث سيبقى كل حدث يدور حولها وينطلق منها حتى تحسم نتيجتها.
بوتين تحدث عن العولمة الليبرالية بوصفها منتجاً استعمارياً متوحشاً يعيش على دماء الشعوب ونهب خيراتها، ولكن ماذا عن عولمة ليبرالية ينتجها عالم متعدّد الأقطاب، وتقوم على العدالة بين الدول، والمنافع والمصالح المشتركة بينها؟.
لم يستفض الرئيس بوتين حول ذلك، ولكن عندما يتحدث عن اعتقاد العالم الرأسمالي بأنه ليس هناك بديل عن العولمة الليبرالية، وعندما يتحدث عن نسخة استعمارية من العولمة الليبرالية، فهذا يعني أن بوتين يتحدث بشكل غير مباشر عن البديل، وأن هناك نسخة أخرى ستكون على طريقة العالم متعدّد الأقطاب.. صحيح أنه لم يحدّد بالاسم هذا البديل أو النسخة إلا أنه بالمجمل وخلال العقدين الماضيين (مع عودة روسيا كقوة دولية، وصعود الصين كقوة اقتصادية) يمكن استشراف الكثير من معطيات ذلك البديل.
الأكيد أنه لن يكون هناك تخلٍ بالكامل عن العولمة الليبرالية، وسيتم الاحتفاظ بالمفيد منها وتجييره لمصلحة عالم متعدد الاقطاب متكافئ الفرص.. على الأقل هذا ما يبدو عليه السعي الروسي– الصيني. ولنلاحظ أن روسيا والصين طبقتا “العولمة الليبرالية المفيدة”، وحتى الآن لم يكن لهذا التطبيق تداعيات سلبية تذكر، بل إن هذا التطبيق دفع بروسيا والصين إلى المقدمة لناحية إقامة علاقات دولية متوازنة وعادلة.
لنذكر هنا مثالاً واحداً فقط، ففي بداية التسعينيات بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، انفتحت روسيا على العالم، ولم تكن النتيجة ديمقراطية ليبرالية مزدهرة، إنما حملة بيع بالتصفية بلغت أوجها في ظل “أزمة الروبل” في نهاية التسعينيات، وفي هذه الفترة صعد بوتين إلى سدة الحكم وباشر ببناء روسيا الجديدة.
عملية البناء تقدّمت بصورة متسارعة، وكانت صادمة للولايات المتحدة، وللغرب عموماً، حيث عمد الرئيس بوتين إلى توظيف آليات العولمة الليبرالية (خصوصاً في التجارة العالمية) كوسيلة لتحصين الدولة وزيادة قوتها الاستراتيجية (ومثله فعلت الصين) حتى كان هناك من يسمي روسيا بوتين بـ”جانب الظل للعولمة”.
ارتفع دخل الفرد الروسي ليحتل مكانة ضمن المراتب الـ 40 الأولى في العالم، وليكون جيشها ضمن أكبر أربعة جيوش في العالم. ورغم حملة التحذير والتهديد الواسعة التي أطلقتها الولايات المتحدة، وحرّمت بموجبها على حلفائها، خصوصاً الأوروبيين، التعامل مع روسيا (.. والصين)، إلا أن هذه الحملة لم تكن مجدية، وانطلقت الدول، وفي مقدمتها الأوروبية، في تعزيز علاقاتها مع روسيا، خصوصاً في مجال الطاقة (ومشروع خط الغاز نورد ستريم 1و2).
لذلك، عندما بدأت عملية العقوبات والحصار الاقتصادي على روسيا إثر عمليتها الخاصة في أوكرانيا، طالت النتائج الكارثية الجميع، باستثناء روسيا (.. والصين) اللتين حضّرتا نفسيها جيداً لكل الاحتمالات، لقد تلقت العولمة الليبرالية بفعل العقوبات على روسيا ضربة قاسية جداً، خصوصاً على صعيد التجارية العالمية التي هي حسب قوانين العولمة الليبرالية تجارة محايدة حرة تضمن التدفق الدائم دون اعتبارات سياسية.
ربما هذا ما دفع بالولايات المتحدة الأميركية (وقبل حرب أوكرانيا طبعاً) إلى السعي نحو قلب الطاولة ليكون أول معول يضرب أساسات العولمة الليبرالية هو معول أميركي، معول ترامب.
لنتذكر هنا شعار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب “أميركا أولاً” وما جرّه من سياسات بهدف حماية الاقتصاد الأميركي من المنافسة العالمية التي تمثلها كل من الصين وروسيا، وما تجمعانه من دول متحالفة معهما. ولنتذكر هنا كيف انسحبت إدارة ترامب من عدة اتفاقيات دولية، تجارية ومناخية، حدّت من حرية حركة الأموال والبضائع والأشخاص بين الدول، وهو ما نتج عنه أضرار بالغة على المستوى الدولي. ولا ننسى الحرب التجارية التي أشعلتها مع الصين، وفرض مزيد من الضرائب والرسوم الجمركية على البضائع الواردة من الخارج.. إلخ.
إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن تعمل وفق شعار ترامب نفسه، ولكن من دون الإعلان عن ذلك، فهي لم تلغِ الإجراءات الحمائية التي وضعها ترامب، ولم تتراجع عن الحرب التجارية التي أعلنها ضد الصين، ولا عن محاصرة البضائع الخارجية بالرسوم الجمركية والضرائب. هذه الإجراءات طبعاً طبقت على الخصوم والحلفاء على السواء، ولا يبدو أن الولايات المتحدة بإداراتها القادمة، مابعد إدارة بايدن الحالية، ستتخلى عنها.
يمكن القول هنا إن الولايات المتحدة مصرّة على هدم المعبد على رؤوس الجميع، بما في ذلك رأسها، حتى لا يستفيد خصومها من نظام وضعته بيدها، وها هي تراه ينقلب ضدها.