دور سورية في إرساء قواعد الغناء
أمينة عباس
تندرج المحاضرة ألقاها الدكتور محمود السيد مؤخراً في المركز الثقافي في أبو رمانة، تحت عنوان “دور سورية في إرساء الغناء وقواعده”، ضمن الجهود المبذولة في رقمنة التراث الموسيقي السوري العالمي والحفاظ عليه من الاندثار وإتاحته ونشره في مجتمع المعلومات الرقمي، خاصةً وأن الموسيقا تُعتبر من أكثر الفنون تعرضاً للضياع.
وفي تصريح لـ “البعث”، أكد د. السيد أن الباحث في محاولة التعرف على تاريخ الموسيقا وتطور آلات العزف يلجأ إلى دراسة بقايا الآلات الموسيقية التي اكتُشِفت في مختلف المواقع الأثرية في سورية والعالم ومشاهد الآلات الموسيقية المرسومة أو المنحوتة على الجدران والأواني الحجرية والفخارية والدمى الطينية والتماثيل، وما ذُكر في نقوش الكتابة القديمة (مسمارية، هيروغليفية، أبجدية) عن أنواع وأسماء الآلات الموسيقية ونوع المادة المصنوعة منها والمناسبات التي استخدمت فيها الآلة والمخطوطات القديمة التي تشير إلى الآلات الموسيقية وكيفية صناعتها مع رسوم لها، مشيراً إلى أنه في سورية اكتُشف أقدم رسم في العالم يصوّر الغناء والرقص احتفالاً بالمواسم الزراعية وجني المحاصيل، ويبرز دور المرأة وإسهاماتها في بناء أسس الحضارة والمجتمع وذلك في موقع تل حالولة الأثري في منطقة الفرات الأوسط، وتؤرخ في الفترة الواقعة ما بين 8500 – 8800 ق.م، واللوحة تجسد حالة من الرقص الطقسي في فترة المزارعين الأوائل، وهذه اللوحة إحدى الرسوم المكتشفة، مبيناً أن المعطيات العلمية واللقى الأثرية أكدت أن أول مغنية في العالم القديم أورنينا وهي مغنية معبد عشتار من خلال تمثال تم اكتشافه في سورية في مملكة ماري ويؤرخ بحوالي 2500 ق.م.
أرشيف مملكة إيبلا
وأوضح السيد أن أرشيف مملكة إيبلا السورية يؤكد ازدهار الحياة الفنية في المملكة ويتحدث عن موسيقيي وموسيقيات ومغني ومغنيات وراقصي وراقصات القصر ويتحدث عن إحيائهم للمناسبات الملكية في إيبلا والأعياد واحتفالات الزواج والمهرجانات الدينية، كما يتحدث الأرشيف عن العزف على القيثارة ويؤكد ذلك ختمٌ أسطواني نُحت عليه شخص يعزف على قيثارة، وبالتالي تمثل إيبلا برأيه ثقافة موسيقية متطورة ومترابطة إقليمياً مع الثقافة الموسيقية التي كانت سائدة في جميع أنحاء شمال سورية، وأن أرشيف مملكة ماري السورية على الضفة اليمنى لنهر الفرات أهم وأغنى مصدر كتابي في العالم مؤرخ بعصر البرونز يتحدث عن الموسيقا والموسيقيين وأوضاعهم ومستوى معيشتهم ومدارس التدريب على الموسيقا التي كانت تابعة للقصر الملكي وكيفية اختيار العازفين والعازفات والهيكل التنظيمي للموسيقيين في القصر الملكي، وهو يشير إلى رئيس الموسيقيين ويوضح كيفية التفاهم بينه وبين كادره من الموسيقيين من خلال إشارات متعددة من أصابعه ويديه وذراعيه تدل على المقام والنغمات والألحان والإيقاعات لإنشاء لغة موسيقية لا غنى للموسيقا عنها.
أهم ابتكار موسيقي
وبيَّن السيد أن أقدم مشهد لفرقة موسيقية جماعية اكتُشِف في موقع تل الحريري الأثري، وهو يدل على تعدد وتنوع أصوات الآلات الموسيقية المستخدمة في العزف، وعلى تطور مفهوم الدّوزَنة المشتركة ونضوجه لدى موسيقيي مملكة ماري، حيث أدرك الموسيقيون السوريون من خلال دوزنة الآلات الموسيقية فاعلية السلم الاستهلالي المفتوح قبل فيثاغورت، ويؤرخ مشهد الفرقة في نفس الوقت مرحلة جديدة من مراحل تطور فن الموسيقا وظهور الفرق الموسيقية الجماعية والتمهيد لظهور النوتات الموسيقية التي هي أهم ابتكار موسيقي قدمه السوريون للحضارة الإنسانية، حيث وجِدت أقدم نوتة موسيقية كاملة منقوشة على رقيم فخاري يحتوي أبيات شعر مدونة بالكتابة المسمارية الحورية، تليها أسطر مدونة بالكتابة المسمارية الأكادية، فيها أسماء الأبعاد الموسيقية البابلية عُثر عليها أثناء حملات التنقيب في خرائب مملكة أوغاريت في محافظة اللاذقية في الفترة الواقعة ما بين 1950 و1955 ويمثل الرقيم المسماري أقدم قطعة موسيقية في العالم تضم 36 أغنية أو لحن، حُفظ منها بشكل جيد ما أطلق عليه ترنيمة نيكال التي أمكن تفسيرها نوعاً ما بدقة، ويؤرخ الرقيم ب3400 سنة خلت أي ب1400 ق.م، وقد اكتشف في مملكة أوغاريت في أنقاض مكتب القصر الملكي، وهو يؤكد أن مقياس النغمات الموسيقية السبعة والتناغم كان موجوداً في الألف الثاني ق.م، وقبل الإغريق بوقت كبير، وبالتالي فإن أصل الموسيقا الغربية يعود في جذوره إلى الشرق القديم وليس إلى الإغريق ليكون هذا الرقيم أول مثال معروف ومثبت للتدوين الموسيقي في العالم، وأول وأقدم مثال في العالم لأغنية مرفقة بلحن وأول لحن في العالم.
الآلات الموسيقية
تطوُّر الموسيقا والغناء في سورية رافقه تطور صناعة الآلات الموسيقية لأنه لا يمكن تقديم موسيقا دون العزف والقرع على الآلات، لذلك يذكر الأرشيف اسم الآلات الموسيقية المستخدمة في العزف ومواد صناعتها وتأثير نوع كل مادة على صوت النغم الموسيقي وتتحدث المنشورات السابقة على أن أقدم استخدام للقيثارة في سورية يؤرخ بالألف الثاني ق.م. وأكد السيد أن أقدم دليل في سورية للعزف على القيثارة اكتُشف في مملكة ماري ويؤرخ بالفترة الواقعة بين 2350 – 2500 ق.م وهو عبارة عن تمثال مصنوع من المرمر يجسد اثنين من الموسيقيين يعزفان على القيثارة، في حين أن التماثيل الأثرية والنصوص المسمارية المكتشفة في موقع رأس الشمرة الأثري تشير إلى استخدام الناي والقيثارة والطبل والكنارة أو الرباب والصنج والمصافق من العاج أو الخشب، وأن سورية عرفت قديماً نوعين من آلة العود، الأول العود طويل العنق، والثاني العود قصير العنق، وقد تم اكتشاف نحت في موقع جرابلس الأثري شمال سورية يصور عازف عود وعازف مجوز وراقصاً وهو يؤكد أن السوريين صنعوا عوداً ذا ثلاثة أوتار ما يوضح أن صناعة الآلات الموسيقية في سورية في مطلع الألف الأول الميلادي انتشرت وازداد انتشارها في الألف الأول الميلادي، في حين أن أقدم دليل ووصف دقيق في العالم لآلة الأرغن الموسيقية موجود في لوحة العازفات الفسيفسائية، وهي أجمل وأندر وأفضل لوحات الفسيفساء في العالم اكتمالاً ودقةً في أحد منازل قرية مريمين جنوب غرب مدينة حماة، وتؤرخ اللوحة بنهاية القرن الرابع الميلادي، ومن أهم مزايا هذا المشهد الموسيقي الذي تصوره من خلال ست نساء يعزفن على آلات موسيقية مختلفة، منها الأورغن وهي معروضة اليوم في متحف حماة الوطني وهي أول وأقدم وثيقة في العالم تشرح كيفية استخدام آلة الأورغن والعزف عليها.