مقاطعة السلع تفرض نفسها “مجبر المستهلك لا بطل”.. دعوات لا صدى لها وآمال تصطدم بقلة الجدوى والنفعية!
قد يكون موروث الانضباط النفسي ومعها سوية الأخلاقيات الاجتماعية السائدة في مجتمعنا فرصة لتمادي التجار وأرباب الأسواق، ولاسيما مع تردّد المستهلك في الشكوى على أسس روحية تنبع من الالتزام الأدبي بعدم جواز قطع الأرزاق، وفي مبرر آخر عدم الجدوى من الشكوى لاستفحال الفساد والرشوة، إلا أن المشكلة في استمرار الاستغلال الباطل أمام حق قانوني وشرعي يعزف المواطن عن ممارسته رغم أن (الساكت عن الحق شيطان أخرس) و(من غشنا ليس منا)!.
ظلم عمودي وأفقي!
اليوم هناك ما يدعو لإعادة النظر بسلوكيات استهلاكية مغلوطة دفعت شريحة التجار للاستشاطة في جنايتهم بحق الناس، حتى بوجود نصوص تشريعية من المفترض أن تكون رادعة وفي مراحل متقدمة توقف المسيئين عند حدّهم، وليس أولى من سلاح (المقاطعة) الذي يأتي أُكله مباشرة دون الرجوع إلى القوانين التي طالما تعودنا عليها أن تكون مطاطة، وفي مصلحة الحلقة الأقوى (التاجر) في أزمان تعود المواطن الظلم العمودي والأفقي، في وقت لا يرتجي الكثيرون آمالاً من هذا الخيار التكتيكي، لأن ثمّة تجريباً لم يجد عند تاجر يربط خيوط السوق في كفه ويحركها كيفما يشاء.
هنا لسنا بصدد الدفع بالناس نحو العزوف عن الأكل والشرب وشراء المستلزمات الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، بل هناك سلع ومواد ليست بالضرورية والملحة في الحياة اليومية، يمكن اللجوء إلى خيار مقاطعتها عند قيام التاجر برفع سعرها دون مبررات مقنعة أو احتكار بعض المواد، طمعاً بتثبيت سعر جديد، ولاسيما أن المتعارف علية أن المستوى الذي يصل إليه سعر المادة ارتفاعاً لن يعود من جديد إلى الحدود الطبيعية، إلا في حالات قسرية وزجرية تفرضها الحكومة على الأغلب بناء على ضغوطات تصبّ في خانة إرضاء الشارع.
طفت وخبت..!
وفي معرض الكلام هذا لم تكن دعوة الكثيرين للمقاطعة، إلا إحياء لماضٍ لم يخلو من حملات طفت لفترة ثم خبت بسبب التراخي وعدم التطبيق، وهذا ليس جديداً في ظل إخفاق الحكومة في تكوين ثقافة استهلاكية وتسويقية تملك أدوات وطرقاً أكثر فعالية من القوانين ذاتها. ومع كثرة السلع الثانوية أسوة بتلك الكمالية، فإن سلاح (مقاطعة) السلع ومعها التّجار لها من القوة والاستطاعة ما لم يستطعه نص تمادى التاجر بتوظيفه واستغلاله بالتواطؤ مع موظفين مقنّعين بلبوس ابن الدولة ولكنه مخرب درجة أولى!!.
معظم السلع
لطالما تشهد الأسواق السورية منذ شهور عدة موجة غلاء مستمرة تطال معظم السلع الاستهلاكية والغذائية، بما في ذلك محلية المنشأ والزراعة (أي لا توريد فيها)، كالخضراوات والحبوب والفواكه والمعلبات، في زمن تعاني شريحة كبيرة من السوريين من عدم قدرتها على تأمين قوتها اليومي في ظل الفجوة الكبيرة بين الأجور وأسعار السلع المختلفة، ليؤكد خبير أن الأسرة السورية تحتاج إلى 700 ألف ليرة (200 دولار) كحدّ أدنى شهرياً لتأمين احتياجاتها الأساسية.
وعلى الرغم من الانتشار الكبير لمختلف أصناف الفواكه والخضراوات المحلية في الأسواق، فإن الأسعار المرتفعة لمعظمها جعل الكثير من السوريين يحجمون عن شرائها.
توافق واحد
ويقول (أحمد) الموظَّف في شركة خاصة: “لم نتمكن من تخزين حتى كيلو واحد من الخضراوات أو الفواكه، الأسعار غير منطقية منذ الصيف ولا تتناسب بأي حال مع الراتب، وإذا لم نتمكن من شرائها في الصيف فكيف سنشتريها اليوم في الشتاء عندما تتضاعف أسعارها”؟.
ويرجع (نادر) غلاء أسعار الفواكه والخضراوات إلى غلاء أسعار المحروقات، فتكلفة نقل البضائع زادت مرتين من دمشق وريفها، مما ضاعف من أسعار السلع، بالإضافة إلى الشحّ الكبير في البنزين.
هنا تؤكد لجنة تجار ومُصدّري الخضار والفواكه في دمشق عزوف الكثير من المزارعين في المحافظات عن شحن محاصيلهم لارتفاع تكاليف النقل وأجور العمال، مفضّلين بيعها في الأسواق المحلية، ليصل معظم السوريين إلى توافق واحد بأن المقاطعة فعل يجبر المستهلك على إتباعه، لا لأنه يضغط على التاجر لتخفيض السعر، بل لعدم قدرته على الشراء من أصله؟. إذ لم تقتصر موجة الغلاء التي ضربت الأسواق السورية على الخضراوات والفواكه، بل طالت معظم السلع الغذائية الأخرى كالمعلّبات وحليب الأطفال والسكر والأرز وغيرها من المنتجات التي يعتمد عليها السوريون بشكل رئيسي.
أمثلة وأسباب
النقاش والجدل مستمران حول إمكانية مقاطعة البضائع بشكل كامل، من أجل خفض أسعارها، حيث دعم البعض أحاديثهم بنموذج مقاطعة البيض الشهير الذي أدى إلى نتائج كبيرة في الأرجنتين، وهناك آخرون جاؤوا بأمثلة وأسباب تؤكد فشل مثل هذه الفكرة في تجربتنا، كما أسلفنا.
المهندس فيصل يوسف –يراقب الأسواق عن كثب بحكم تخصّصه في التسويق والدعاية- يؤيد الفكرة انطلاقاً من أن مقاطعة مادة ما تؤدي إلى انخفاض الطلب عليها، وبالتالي انخفاض أسعارها، لكن مثل هذه القاعدة قد تصلح مع مادة مثل اللحوم أو غيرها من المواد التي يمكن الاستغناء عنها لفترة من الزمن فقط. وأوضح يوسف أن مقاطعة البضائع لا تنجح لعدة أسباب، أولها يتعلق بفكرة المقاطعة بشكل عام، إذ لا يوجد لدينا قنوات رسمية أو أهلية تنظم سلوك المستهلك في سورية، أما بالنسبة لجمعية حماية المستهلك، فلم نسمع ولم نرَ منها أي عمل حقيقي ضمن الأسواق، أو يخصّ تثقيف وتوعية الناس بحقوقهم وواجباتهم، بل على العكس، نشهد في بعض الأحيان تصريحات تبرّر ارتفاع الأسعار، وبالتالي فإن المقاطعة ليست حلاً، لأن التخفيض إن حصل سيكون مؤقتاً، ثم ستعود السلعة للارتفاع، وبالتالي الحلول بتنظيم الأسواق والتحكم في الأسعار، إلا أن الأسواق المركزية (سوق الهال) هي التي تتحكم في الأسعار ولا أحد آخر.
شروط حدوثها
من جهتها ترى جمعية حماية المستهلك في دمشق إمكانية نجاح مقاطعة البضائع بتخفيض أسعارها، لكن بعد توافر شروط حدوثها، لأنها تحتاج أولاً إلى ترسيخ ثقافة المقاطعة عند المستهلك، وهذا يحتاج إلى تركيز من وسائل الإعلام على الأمر، إذ إن استجابة 5 أو 10 بالمئة من المجتمع لن تؤثر في السلعة، ونحتاج بالحدّ الأدنى 25 أو 30 بالمئة للمقاطعة.
ومع ذلك يتفق الكثيرون على أن مقاطعة البضائع ولفترة طويلة لن تجدي نفعاً، ولا يستطيع المواطنون تحملها، فبعض المواد الغذائية ضرورية ولا يمكن لأحد الاستغناء عنها، وبطبيعة الحال بات المواطنون يشترون فقط المواد والسلع الأساسية، وقد استغنوا عن الكثير من المواد الغذائية وغيرها من المواد بسبب انخفاض الدخل الشهري.
ومؤخراً قفزت أسعار السلع الغذائية والأدوية وباقي السلع الأخرى قفزات كبيرة، فغلاء الأسعار انعكس سلباً على حركة الأسواق، ودفع غالبية السوريين إلى شراء ما هو ضروري للحياة المعيشية فقط والتخلي عن كثير من السلع تحت عنوان المقاطعة المقصودة أو المجبرة التي لا بطولة فيها.
علي بلال قاسم