الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

معين بسيسو!

حسن حميد 

كنتُ ولم أزل، أعدّ مدوّنة الكتابة ناقصة، إن لم تُقرن بمدونة حياة الكاتب، لأن أولاهما تضيء الثانية، ولأن الثانية مرجعية للأولى، وكنتُ، ولم أزل، على قناعة بأنّ تجارب أدبية عربية مهمّة في إبداعها ورؤاها ظُلمت كثيراً لأسباب كثيرة لها علاقة بالظروف والأزمنة والأمزجة ذات الكدر الثقيل، ومنها تجربة شاعرنا الفلسطيني الفذ معين بسيسو التي طالها أذى جهول.

أقول هذا في ذكرى رحيله، لأن إبداعه الشعري والمسرحي والسيري، مدوّنة باذخة في الأهمية والحضور، إذ ليس فيها من سطر واحد إلا وهو مغموس بماء القلب بعدما رأى معين بسيسو وعاش ما حدث ويحدث لأبناء الشعب الفلسطيني، فوق أرضه وفي المنافي، لقد رأى العذاب كائنات حيّة تجول هنا وهناك، في الوطن الفلسطيني المحتل والمنافي معاً، ورأى الظلم وحوشاً طليقة جارحةً في مواجهته، ورأى الموت سطوةً تطال الصغير والكبير!.

معين بسيسو، وكلما واقفت سيرته بكيتُ بدموع مطرية، ثم مسحتها وناديتُ قلبي ليشهد معي أنه شاعر عاش حياته من أجل فلسطين العزيزة، ومن أجل أهلها، أهل الفداء والجسارة الذين مشوا كلّ الدروب المضاءة والمعتمة معاً لتصير أحلامهم واقعاً يعيشونه، فحياة معين بسيسو خدينةُ قصيده الشعري المنيف، الذي اتُهم بالمباشرة والبساطة، وهو الشعر الذي تستطيع أن تصفه بالوضوح والصدق والرؤيا المؤمنة بأنّ الشمس ستشرق مهما امتدّ الليل أو طال، لأن قصيده وليد حياته التي قضى أكثر سنواتها في الزنازين والمنافي حالماً بانتصار الفدائيين، حالماً بحرية الوطن، وأمن القرى والمدن، والدروب إليهما، حالماً بانتشار الرواية الفلسطينية الحقيقية الصادقة، التي تفضح الرواية الإسرائيلية النقيض، وحالماً برؤية العلم الفلسطيني العزيز بألوانه الأربعة يعلو رفرفةً في الفضاء الرّحيب، بعد كنس روائح البارود، ودفن الخوف المُرّ الثقيل.

حياة معين بسيسو التي قضاها في غزة، كتبها قصائد بذوب روحه لأنها هي حياة الفلسطينيين مجتمعة في الضفتين، ضفة الوطن والمنافي معاً، وهي حياة الفدائيين الذين مشوا دروب العزة رغم أنف القهر، وهي حياة الأسرى الذين حولوا الزنازين إلى مدارس تمجّد الوطن والحياة.

حياة معين بسيسو هي الوجه المضيء الأول لقصيده كلّه، وهي عشقه للبلاد الفلسطينية التي عاشت الويلات والنكبات كلّها التي عرفتها تترى، لقد قرأ وتعلّم وعانى وناضل وسُجن من أجل أن يرى وجه فلسطين يبتسم شارقاً بعد ما أفرده العالم وحيّده ليكون فضاءً للحزن الغامق! حياة معين بسيسو قالت لا كبيرة لهذا الظلموت الذي وقع على البلاد الفلسطينية؛ لا كبيرة تكاد تكون هي أجوبة لكلّ أسئلة القصيد الذي دوّنه منذ أن كان طالباً في إحدى ثانويات غزة، وحتى ساعة رحيله، حين خذله القلب فلم يع قولته الشعرية الصريحة بخوفها الموجع:

أخاف أن أموت تحت علم غريب، أخاف أن أموت تحت علم أرفض كلّ خيط فيه!

ولكم خاف معين بسيسو من أن يلوّح للحياة مكرهاً، وهو لم ير حلمه الكبير حقيقةً!

حياة معين بسيسو هي حياة أبناء الشعب الفلسطيني بكلّ حمولتها القهرية، وبكلّ الكواره واللامبالاة التي عاشتها، وبكلّ صور الشجاعة النادرة التي عرفتها، وقصص العشق الوطني التي سطّرتها، وقصيده أيضاً هو اجتماع مواقف أبناء فلسطين في الوطن المحتل والمنافي، وهي أحلامهم! وهو العشق المشتهى لمفهوم الالتزام، إنه الشعر الثوري بلا أصباغ، أو تلوين، أو التواء، وهو الشاعر الثوري الذي ينوف بقامته وموهبته وإبداعه وسلوكه على الكثير من الشعراء العالميين، الذين عرفت بلادهم المظالم، وعلى الشعراء العالميين الذين قضوا حياتهم وهم يلوّبون وينشدون من أجل الحرية.

حياة الترحال والمطاردة، والخوف، والأسئلة، والمواقف، والأحلام التي عاشها معين بسيسو هي الأبوة الحقيقية لقصيده، وهي المصداقية الصريحة لعذابات شعبه المستمرة منذ مئة سنة وأزيد. لقد رفع معين بسيسو راية الشعر الحقيقي الذي لا يحتاج لموسيقا، أو زينة، أو ألوان، أو بهارج، لأنه شعر يحاكي به أفعال الفلسطينيين الحقيقية التي جهرت بصرختها الآبدة، موطني، موطني!

hasanhamid55@yahoo.com