قراءة في “أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ” للأديب الراحل نذير العظمة
مريم كدر
ما كاد يأفلُ أول شهر في عامنا الجديد إلا وأفل معه نجمٌ لامع في سماء الإبداع الأدبي، إنّه الدكتور نذير العظمة الشاعر والناقد والأديب، وأحد أبرز روّاد الحداثة في شعرنا العربي، وأول من كتب القصيدة المدوّرة، وهو الذي كتب عنه أحمد زكي في مجلة الفيصل “نذير العظمة شاعر المرحلة بلا تردد”. وكتابه “أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ” دراسةٌ نقديّةٌ غنية بالآراء القيّمة، وتعدّ مرجعاً وافياً لمن يريد البحث في أدب المقاومة العربية.
بدأ العظمة كتابه بمقدمة عنونها “نحن والآخر في ضوء التاريخ”، تحّدث فيها عن محاولة المفكّرين العرب اللحاق بركب الحضارة الأوروبيّة، واصفاً مفهوم الإصلاح عندهم بأنّه يعني استيراد الأشكال الأوروبيّة لروحنا التي داهمتها ظاهرة المدنية الزاحفة.
لم ينكر العظمة ضرورة استفادة الشعوب من خبرات بعضها البعض، لكنّه استنكر الاقتلاعات التي قام بها بعض المفكرين لنماذجنا الحضاريّة إطلاقاً دون حصر، ما أدى في كثير من الأحيان إلى الاستلاب والتهجين والتبعية.
وفي حديثه عن الغزو الإمبريالي لمنطقتنا العربية، تطرّق إلى الحديث عن حملة نابليون إلى مصر التي استنفرت روح المقاومة الشعبية، ليس في مصر وحدها بل أيضاً في سورية التي أدرك أبناؤها مآرب الأطماع الاستعماريّة في السعي للسيطرة على العالم العربي. العظمة توقف عند دور الشعر الوطني وقصيدة المقاومة التي تميّزت بملامح جديدة في الرؤيا الشعريّة ومضمون التجربة الإنسانيّة للتحرّر من سلاسل العبوديّة، وتحرير أرض الوطن من الجيوش الأجنبية وفلول الاستيطان، ذاكراً أن الشاعر سبق المؤرّخ في تصوير الكارثة وتزويد المواطن والوطن بالرؤية القومية.
الباب الأول من الكتاب جاء بعنوان “شعر النضال الجزائري والتجربة الثّوريّة”، تطرّق إلى الثورة الجزائرية بعظمتها وما رافقها من بطولات تسمو بالدارس عن مستوى الدراسات الشكليّة والتحليلية لشعر النضال، منوّهاً بأن دراسته لشعرها تنطلق مما يجب أن يكون عليه الشعر والشاعر الثوريّان وتتحرك تحركاً بنائياً من قطبين، الأول: الشعر الذي قيل في تلك الثورة، والثاني: النظرة إليه على ضوء التجربة الثوريّة فتحدث عن العوامل التي ساهمت بإعطاء شعر المقاومة تيّارة، وملامحه، وشكله. كما تطرق إلى الحديث عن المقاومة والمرأة الأسطورة من خلال شخصية المناضلة جميلة بوحيرد لدى كلّ من الشعراء نزار قباني، وبدر شاكر السيّاب، وفصل ثالث بعنوان جميلة “بوحيرد وجاندارك”.
وتابع حديثه عن قصيدته “فرس الريح والقصيدة الدرامية” التي يكثّف فيها الثورة الجزائرية ومقاومتها بالثورة والرمز الأسطوري، معتبراً أن أهمية تلك القصيدة تنبع من أيقونة رمز موحّد لشهادات الطفل والأم والفلاحين في سبيل الحريّة جوقة واحدة تؤسطر الثّورة، وفيها تطورت قصيدة التفعيلة من الشكل الوجداني والغنائي إلى الأطر الدراميّة.
أما الباب الثاني، “اتجاهات الشعر المقاوم والكفاح الفلسطيني”، فقد ذكر في مطلعه أنّ كميّة الشعر المقاوم في أدبنا الحديث ربّما تربو على الشعر المقاوم في الفرنسيّة، والإسبانيّة، وغيرها من اللغات الأخرى متحدّثاً عن ثلاثة اتجاهات للشعر المقاوم هي: الاتّجاه الوجداني، والاتّجاه الواقعي الحديث، ونظريّة المعادل الموضوعي التي أفرزت اتّجاهاً شعريّاً متميّزاً عن كلا الاتجاهين السابقين. وبعد أن خصّ كلاً من الشعراء محمود درويش وأحمد القدومي والمتوكل طه وماجد أبو غوش بفصل مستقلّ، انتقل للحديث عن “إرم ذات العماد” التي أصبحت حلماً عند الشاعر الفلسطيني بعد ضياع الوطن كما وردت في أدب كلّ من غسان كنفاني وسميح القاسم، لينتقل بعد ذلك إلى “قانا” البلدة التاريخية التي تحوّلت إلى أسطورة عجائبية في زمن السيد المسيح، حيث ذكر الإنجيل المقدس قيامه بأول معجزة فيها عندما حوّل الخمر إلى ماء في أحد أعراسها، فتطرق إلى رمزية قانا ودلالاتها في شعر نزار قباني ونزار بني المرجة وفي شعره هو.
وانتقل بعدها إلى الباب الرابع “بوابة فاطمة وظاهرة المرأة المقاومة” الذي ناقش فيه قصيدة “بوابة فاطمة” للشاعر نزار بني المرجة ليأخذ القارئ بعدها إلى فاطمة الجنوب اللبناني التي توجّه إليها الشاعر نزار قبّاني في قصيدته “آخر عصفور يخرج من غرناطة”، قبل أن يبدأ الحديث عن ظاهرة المرأة المقاومة والأسطورة، مورداً قصيدته “سيدة المصير” التي كتبها في رثاء الشهيدة “ابتسام حرب”، ثمّ ليتابع بعدها الكلام عن المرأة بين الأسطورة والتاريخ.
أما الباب الخامس والأخير “جبوس ورؤيا العربي الأخيرة”، فقد خصّ به الشاعرة إيتيل عدنان التي وصفها بالمرأة النادرة التي يخرج صوتها حمامة بيضاء من حنجرة التاريخ والوطن ليستقر في القلوب بلسماً شافياً، وتحدث فيه عن مطولتها “رؤيا العربي الأخيرة” التي صدرت باللغة الفرنسية في ستين صفحة تحدثت فيها عن الفاجعة اللبنانية، وعن قصيدة “جبوس” التي عرّضتها لاتهامات بمعاداة السامية ولحملات شعواء شنّتها عليها الأوساط الصهيونية في الغرب. فجبوس هو الكنعاني الذي بنى مدينة القدس ثمّ جاء بعده العبرانيون ليسرقوا تراث المدينة وتاريخها.
وقد ختم العظمة كتابه بالحديث عن الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنيّة، ناقش فيه صفة الشعر ووظيفته، متطرقاً إلى نماذج شعرية عالمية وعربية، معتبراً أن شعر المقاومة كشعر الحماسة لا يكون شعراً إلا إذا استوفى شروطاً أهمها الحياة والجمال، لذلك يستحق البقاء. وانتهى الأديب إلى ضرورة التكامل بين النفعي والجمالي في التجربة الشعرية.
رحم الله الدكتور نذير العظمة الذي سطّر خلوده في وجدان كلّ قارئ ومثقف بما خلفّه من إرث أدبي وفكري لا يزيده مرور السنين إلا أهمية وعَظَمة.