الفساد في أوكرانيا.. لا يبرر إقالة كبار المسؤولين
البعث الأسبوعية- ريا خوري
يصنف “مؤشر الفساد” التابع لمنظمة الشفافية الدولية أوكرانيا في المرتبة المائة والعشرون من أصل مائة وثمانون دولة منتشرة حول العالم، وهذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الفساد يستشري بشدة في المجتمع والدولة الأوكرانية .
هذا الفساد لم يكن وليد الأحداث الساخنة في البلاد، ففي عام 2012 وضعت شركة “إرنست يونغ”، وهي إحدى أكبر أربع شركات مهنية في العالم أوكرانيا ضمن أكثر ثلاث دول العالم فساداً جنباً إلى جنب مع كل من البرازيل وكولومبيا. وفي عام 2015 وصفت صحيفة “الغارديان” البريطانية أوكرانيا بكونها الدولة الأكثر فساداً في أوروبا. كما اعتبر الباحثون والمتخصصون بعد استطلاع أجرته شركة “إرنست يونغ” عام 2017 إلى اعتبار أوكرانيا الدولة التاسعة الأكثر فساداً في العالم.
وصف دبلوماسيو وسياسيو الولايات المتحدة الأمريكية نظام حكم أوكرانيا في عهد الرئيس كوشما – 1994 – 2005- وفيكتور يوشتشينكو 2005 -2010، بأنه حكم كليبتوقراطي -نظام حكم اللصوص- تبعاً لما سربته وكالة “ويكيليكس”، وهي منظمة دولية غير ربحية تنشر تقارير وسائل الإعلام الخاصة والسرية من مصادر صحفية وتسريبات إخبارية مجهولة.
مؤخراً هزّت فضائح الفساد أوكرانيا، وأطاحت بعدد كبير من كبار المسؤولين في الدولة، وتركت تداعياتها واستحقاقاتها قلقاً كبيراً لدى العالم الغربي الأمريكي- الأوروبي الداعم لها. هذا الفساد ليس جديداً بقدر ما هو امتداد لثقافة الفساد المنتشرة على نطاق واسع قبل قيام الجيش الروسي بعملياته العسكرية الخاصة في شهر شباط من العام الماضي 2022 ، فقد تمت إقالة نحو إثني عشر مسؤولاً من كبار المسؤوليين الأوكرانيين مع بدء العمليات العسكرية الروسية بعد أيام من اعتقال نائب وزير يشتبه في مشاركته في عمليات كسب غير مشروع، ومزاعم كاذبة نفتها وزارة الدفاع الأوكرانية، وأثارت استياءً واسعاً في البلاد.
ومن بين المسؤولين المقالين الكبار خمسة حكام مناطق، وأربعة نواب وزراء، ومسؤول كبير بمكتب الرئاسة كان يُنظر له على أنه مقرب جداً من فولوديمير زيلينسكي الذي أعلن أنه ستصدر قرارات تتعلق بالموظفين.
وكان الاتحاد الأوروبي قد جعل من مكافحة الفساد، والحد من انتشاره أحد الإصلاحات الأساسية التي كان ينبغي على أوكرانيا تنفيذها بالسرعة الممكنة قبل الحصول على صفة مرشح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
لكن المثير للدهشة هو التوقيت بالذات الذي جرى فيه الكشف عن العديد من الفضائح وتحديداً الفضيحة الأخيرة، والتي كان أبطالها خمسة حكام مناطق كبار بما فيها دنيبروبيتروفسك، وزابوريجيا، وسومي خيرسون، والعاصمة الأوكرانية كييف، وأربعة مساعدي وزراء، ومسؤولين في وكالة حكومية تمت إقالتهم من مناصبهم، إضافة إلى مساعد مدير الإدارة الرئاسية، ونائب المدعي العام، ونائب مدير مكتب الرئيس زبلنسكي كيريلو تيموشينكو من منصبه، علماً ان الشاب الذي لم يتجاوز الـ 33 عاماً من عمره كان أحد الاأكان المهمة جداً للحملة الانتخابية لزيلينسكي، وشغل العديد من المناصب كان آخرها منصب نائب مدير مكتب الرئيس منذ عام 2019، وله نفوذ ومكانة كبيرة ومهمة في البلاد، حيث أشرف شخصياً على المناطق والسياسات الإقليمية في جميع أوكرانيا.
في هذا السياق كرّست مجموعة من كبار المسؤولين الأوكرانيين فكرة انتشار الفساد، ودعم المفسدين، والسرقة والنهب في الدولة، وخاصة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية التي تحوز على ميزانيات مالية ضخمة، بالإضافة إلى المؤسسات والهيئات والإدارات والوزارات الأخرى، لتتزامن مع نداءات أوروبيين بوقف الدعم لأوكرانيا، أو على الأقل مراقبته بشكل جاد ومباشر خوفاً من ذهابه الى جيوب وحسابات كبار المسؤولين الأوكرانيين فقط، وذلك على خلفية قضية فساد مالي وإداري تتعلق بعمليات شراء إمدادات للجيش بأسعار مبالغ بها، لتشكل هذه القضية صاعقة كبيرة جداً سمع دويها في كافة أنحاء العالم، وخاصة الدول الداعمة لأوكرانيا التي تقدم لها المساعدات المالية والعسكرية واللوجستية على حساب شعوبها في سبيل مساندتها للتصدي للقوات الروسية.
الجدير بالذكر أنّ حجم المساعدات المالية والعسكرية التي وصلت من دول الغرب الأوروبي قد وصلت إلى نحو مائة مليار دولار أمريكي مع بداية العام 2023 بينها أكثر من أربعين ملياراً للقوات الأوكرانية .
لقد اضطرت حكومة فلاديمير زيلينسكي الإعلان عن تلك الفضائح بعد أن تم الحديث عن إمكانية مساءلة الغرب الحكومة الأوكرانية عن مصير أموالهم، خاصةً أنّ تجارة السلاح والسوق السوداء قد امتدت لتصل إلى دول الاتحاد الأوروبي، وبعد أن تناولت وسائل الإعلام الفساد في أوكرانيا وانتشاره بهذا الشكل الفاحش، حيث يعتبر ضربة قاصمة في صميم مشروع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الاوروبي.
من جانبه، يؤكد الاتحاد الأوروبي أن هناك عقبة تواجه أوكرانيا في إنضمامها اليه، وأنّ الحكومة الأوكرانية تتلكأ في مكافحة الفساد المستشري في كافة مؤسسات، وإدارات، وهيئات الدولة، كما شدّد الاتحاد الأوروبي على ضرورة تنفيذ أوكرانيا لإصلاحات هامة ورئيسية قبل التقدم من أجل حصولها على صفة مرشح للانضمام إلى التكتل الأوروبي. كما تزايدت المطالبات من قبل كبار المسؤولين الغربيين بضرورة وضع قيود وضوابط صارمة على المساعدات التي يتم إرسالها إلى أوكرانيا، والمطالبة بإنشاء لجان متابعة ومراقبة المصروفات المالية، والإشراف عليها، ومعرفة اتجاه الأسلحة التي تفقد من المخازن .
كان ذلك قد جرى في وقتٍ له خصوصية كبيرة، وهو الذي جاء في أعقاب اجتماع وزراء دفاع الحلفاء الغربيين في قاعدة “رامشتاين” الأمريكية في ألمانيا، والذي تم اعتباره بمثابة نقطة تحوّل نوعي في الدعم الغربي الأمريكي – الأوروبي لأوكرانيا، فقد تقررت زيادة المساعدات العسكرية واللوجستية وإرسال أحدث الدبابات الأمريكية والأوروبية إلى أوكرانيا على أمل إحداث تغيير بنيوي وأساسي في الواقع الميداني لصالح الجيش الأوكراني المتهالك، وتمكينه من جديد في سبيل تحقيق النصر في تلك الحرب.
وبعيداً عن ردود الأفعال الروسية بشأن إرسال تلك الدبابات، والدعم اللوجستي، وانخراط الغرب وحلف شمال الأطلسي (الناتو) عملياً في الصراع الدائر في أوكرانيا، واحتمالات اندلاع مواجهة مباشرة مع روسيا، فإن محاولات الحديث عن إقالة عدد من كبار المسؤولين الأوكرانيين المتورطين في الفساد، والسرقة، والنهب على أنه إنجاز كبير لحكومة زيلينسكي، وجهودها المبذولة في مكافحة الفساد غير صحيح ومنافٍ للحقيقة، ذلك أن هؤلاء المسؤولين يعتبرون من أقرب المقربين لزيلينسكي، ويتولون مناصب هامة وحساسة في زمن الحرب الساخنة.
هذه الحقيقة لا يمكن إخفاؤها مهما سعت الآلة الإعلامية للتغطية على الانتقادات الحادّة التي بدأت تثار في الغرب بشكلٍ واسع، مع تواتر التقارير الأمنية والإعلامية عن بيع أسلحة غربية في السوق السوداء، خاصةً بعد إلقاء السلطات السويدية والدانماركية والنرويجية القبض على بعض المهربين.
من الواضح أن الغرب الأوروبي – الأمريكي، يعمل بكل استطاعته على عدم إظهار المزيد من الانقسامات والتناقضات في صفوفه، أو كشف نقاط ضعفه أمام روسيا، كما أنه لا يريد أن يظهر بمظهر الداعم لنظام أوكراني فاسد من كل النواحي، سواء قبل الأزمة العسكرية أو بعدها، خوفاً من سقوط مبرراته التي لطالما كان يتغنى بها، وبالتالي تدعيم ما ذهبت إليه روسيا على اتهام أوكرانيا بالفساد .