“ووتر غيت” بايدن.. هل انتهى الدور؟
رغد خضور
“مؤسّسو أمريكا أرادوا تجنّب الملكية، خاصة الملكية المطلقة، فجاؤوا بفكرة الرئيس الذي يخدم لفترة محدودة، ولكن أعطوه سلطة مطلقة في بعض النواحي، في حين أنه يجب أن يعود في بعضها الآخر إلى الكونغرس”، ما جاء في كتاب “قياصرة أمريكا: حياة الرؤساء الأمريكيين من فرانكلين روزفلت وحتى جورج بوش الابن”، لمؤلفه نايجل هاملتون، يعطي تفسيراً وشرحاً واضحاً عن دور رؤساء أمريكا في خدمة كيانات أخرى لها اليد العليا في تقرير مصير الأمة الأمريكية، ينتهون معه حين لا يبقى لهم ما يقدمونه أو يفعلونه، بل قد يكونوا عائقاً أمام تنفيذ خطط واستراتيجيات محدّدة.
بكلّ بساطة الأمر يتعلق بماذا يقدّم هذا الرئيس أو ذاك لمالكي أمريكا الحقيقيين، أو بالأصح لواضعي السياسة الأمريكية والمتحكّمين بمفاصل القرار فيها، والممسكين بالخيوط المحرّكة للعبة، وعليه فإن أي فرد يقف في وجه مخططاتهم أو يحاول التغريد خارج السرب فإنه يلقى جزاءه، فتكثر الأزمات في عهده وتشتدّ المعارضة ضده وتزداد التهم الموجهة إليه ويُحاسب على كلّ تفصيل بماضيه، حتى لو كان ما فعله في السابق يهدف لخدمة أمريكا.
وبين جمهوري وديمقراطي يكون اللعب، حيث يسعى كلّ فريق لكشف عيوب الطرف الآخر لكسب تأييد الجماهير الأمريكية، والاستحواذ على أصوات الناخبين للظفر بالكرسي الذي يمكنهم من تمرير أجنداتهم ومشاريعهم، والتي كما سبق وقلنا، تخدم الأهداف “العظمى” للاعبين الأساسيين خلف الكواليس، ولتحقيق هذه الغاية، كلّ الوسائل مشروعة.
ولأن منصب الرئيس على قدر من الأهمية، فهو يُمكّن صاحبه من اتخاذ قرارات مفصلية، من شأنها إشعال حروب ووقفها، والتحكّم بمصائر الشعوب والأمم، ترتفع حدّة المواجهة في الفترات التي تسبق الانتخابات، ويسبقها تمهيد للشعب الأمريكي بوجوب تغيير الرئيس الحالي، واختيار آخر أكثر مسؤولية وكفاءة، وقد يكون ذلك أسلوباً لإعادة الشخص الشاغر للمنصب إلى الطريق “القويم” في حال شذّ عنه، أو استبداله في حال لم يكن بالإمكان ترويضه بالشكل المناسب.
وفي هذا السياق نذكر ما حدث مع الرئيس الأمريكي الأسبق، فرانكلين روزفلت، الذي على الرغم من الإصلاحات الكبيرة التي قام بها لإخراج أمريكا من حالة الكساد العظيم، وإنعاش الواقع الاقتصادي في البلاد، إلا أن خططه، التي عُرفت باسم “الصفقة الجديدة”، لم تلقَ قبولاً لدى البنوك، التي تضرّرت مصالح القائمين عليها مع إعطاء روزفلت عطلة لها وإيقافه للودائع، فكان لا بد من الضغط عليه لإخضاعه من جديد.
وأدّت الدعاية السلبية لسياسات روزفلت، والاضطرابات العمالية والركود الاقتصادي الإضافي عام 1937 إلى التأثير على شعبيته، ومع تحقيق الجمهوريين مكاسب في انتخابات التجديد النصفي، مكّنتهم من تشكيل تحالف مع الديمقراطيين المحافظين لإنهاء قدرة روزفلت على سنّ المزيد من القوانين والتشريعات الإصلاحية، ولم يتح للرئيس آنذاك أن يلتقط أنفاسه ويحاول إيجاد مخرج جديد، بعد تضاؤل الدعم للصفقة التجارية، حتى وجد نفسه منخرطاً بحرب كبرى، على أكثر من جبهة، وكله في سبيل إظهار أمريكا كقوة جديدة توازي القوى العالمية في حينها.
وعلى الرغم من ذلك، نجح روزفلت بكسب تأييد الأمريكيين، الذين أوصلوه إلى أربع ولايات رئاسية، ولم ينجح غيره من الرؤساء بذلك، حيث كانت الأزمات التي تعصف بهم والفضائح التي يُغرَقونَ بها والتهم التي تُوجّه لهم، أكبر بكثير من أن يمكن للجماهير التغاضي عنها، وخاصة مع وجود سجل مشين لكلّ منهم، تزيد عليه قضايا الفساد والحروب الخارجية والداخلية.
ولأن أمريكا تُظهر نفسها على أنها حامي القيم والمثل العليا، فإنها بالتأكيد لن ترضى برئيس مرتشٍ، فاسد، غير متوازن عقلياً، له سجل إجرامي في الحروب، يتبع أساليب ملتوية للوصول إلى غاياته، ويتجسّس على منافسيه للبحث عن ثغرات يمكن استغلالها للإيقاع بهم، كما حصل مع الرئيس ريتشارد نيسكون في قضية “ووترغيت” الشهيرة، التي كانت السبب في تقديم استقالته.
ولكنها لم تكن مشكلة تجسّس وعدم نزاهة وحسب، فأمريكا وقادتها مشهود لهم باتباعهم أخبث الطرق لإيقاع خصومهم وإغراقهم بأزمات عدة لتحقيق مآربها، ولكن السيد الأمريكي لا يرضى أن يكون في بيته من يتصرف بهذا الشكل، غير أن التحقيقات الصحافية ركزت على قضية مقتل الآلاف من القوات الأمريكية في فيتنام، حيث كانت أمريكا وقتها غارقة بحرب شرسة استنزفت الاقتصاد الأمريكي، ولم يكن هناك أي مؤشرات تدلّ على تحقيق النصر لأمريكا، وكانت هناك دعوات لسحب القوات الأمريكية.
وإلى جانب قضية التسجيلات، التي عُثر عليها في البيت الأبيض، وقُدّمت للمحكمة بعد حذف مقاطع مهمّة منها، قيل وقتها إنها “تمسّ أمن الدولة”، استحوذت قضية فيتنام على اهتمام الصحافة الأمريكية في وقتها، حيث استغل الصحفي ديفيد فروست، الذي أجرى المقابلة التي قسمت ظهر البعير، تفصيل أمن أمريكا لدغدغة مشاعر الأمريكيين، وجرّ نيكسون إلى فخ أدى لإنهاء ولايته الرئاسية.
“ما يقوم به الرئيس هو القانون”، قالها نيكسون بشكل واضح وصريح، وهذه العبارة هي ذاتها التي سار عليها جميع الرؤساء من بعده، حتى لو لم يجهروا بذلك، ولكن هذه السياسة كانت تعود بالأثر السلبي على مستخدمها، الذي يجد نفسه أمام كيلٍ من الاتهامات لاختراق القانون خلال فترة توليه الحكم، تظهر تباعاً عند انتهاء دوره.
فضيحة “ووترغيت” حدثت في مناخ سياسي متوتر في أمريكا، فإلى جانب الانتخابات كانت الانقسامات داخل الكيان الأمريكي كبيرة، وتلك التصدعات لا زالت مستمرة حتى اليوم، ويمكن أن ينسحب ذلك على ما يحدث في البيت الأبيض خلال هذه الفترة، حيث التحقيقات تطال، ليس رئيساً واحداً، بل اثنين، وكلّ ذلك في سبيل منع الفريق الآخر من ترشيح نفسه للانتخابات المقبلة، وكلّ ذلك في أجواء عدائية تعيشها واشنطن مع انغماسها في الأزمة الأوكرانية، ومحاربتها لروسيا والصين وإيران، فضلاً عن تداعيات أزمة فيروس كورونا التي لم تخرج منها أمريكا بعد.
وهذه المرة كانت الوثائق السرية هي “الحجة” لتحريك الرأي العام الأمريكي، تلك الوثائق التي يؤدي الكشف عنها إلى إحداث أضرار جسيمة في الأمن القومي الأمريكي، المصطلح ذاته الذي قضى على تطلعات نيسكون في الرئاسة، وقد أضافت هذه القضية مزيداً من التصدّع في المشهد السياسي الداخلي لأمريكا.
ولطالما أثارت مسألة “احتفاظ” مسؤولين أمريكيين بوثائق مصنّفة “سري للغاية” و”سري” الكثير من اللغط، خاصة وأن مثل هكذا ملفات تخضع لحماية شديدة وتدابير أمنية صارمة، ولا يحق إلا لعدد محدّد من الأشخاص الوصول إليها، وبموجب قانون السجلات الرئاسية، تذهب سجلات البيت الأبيض إلى الأرشيف الوطني بمجرد انتهاء ولاية الرئيس.
وعليه فإن العثور على مستندات ووثائق تعود إلى زمن تولي الرئيس الحالي جو بايدن، لمنصب نائب الرئيس في فترة أوباما، يفتح المجال لسجال طويل قد يفضي لاستنتاجات لا تُحمد عقباها، خاصة وأن بايدن يتهيأ للترشح للانتخابات المقبلة، ويبقى السؤال هنا، هل انتهى دور بايدن في تمرير ما وضع لأجله، أم أنها مجرد مناوشات بسيطة لإخضاع الرئيس لتمرير صفقات معينة؟. ربما تكشف الأيام المقبلة عن إجابات حول ذلك.