الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عرْض حال

عبد الكريم النّاعم

صديق عزيز أرسل لي رسالة بعد الزلزال الذي ضرب سوريّة يسألني عن حالي، وكنتُ في حالة ضيق شديد فتوسّعتُ في الإجابة، وأنا أنقلها إليكم فاعذروني.

صديقي الذي لا يُنسى، اعذرني إذا لم أبدأ بديباجة تتناسب مع حجم اللهفة.

رحم الله القائل “ولاَ بُدَّ من شكوى إلى ذي مروءةٍ         يواسيك أو يُسليكَ أو يَتَوَجّعُ”.

أنا أعلم أنّ “المواساة” عن بُعد هي همّ إضافي، وأن “السّلوى” غير ممكنة، وأنّك لا تملك إلاّ أن “تتوجّع”، وكم يؤلمني ذلك، ولكنْ للأسف ليس لديّ شيء آخر.

اسمح لي أنّ أفصّل، فالزلزال الذي جاء بعد المآسي المتتالية التي قذفتْنا بها الوحشيّة الأمريكيّة، يؤازرها في ذلك فاسدو الدّاخل.. هذا الزلزال أعتقد أنّنا نحتاج لإعادة تأهيل كي ننسى رعبه، وما زال الناس حولي حين يشعرون ولو بهزّة خفيفة يسارعون لمغادرة منازلهم في الليالي الشديدة البرودة إلى بعض الشوارع الفسيحة الآمنة، أمّا أنا فألتزم الفراش والرّعب، فلم يعد جسمي يقوى على تحمّل المشقّة والبرْد، وأوثر أنّ أموت تحت الرّدم على الوقوف في مواجهة الزمهرير.. الخوف يجتاح أعماقنا يا صديقي، وقانون قيصر، قانون التوحّش الأمريكي يُعطي فرصة لمن يريد التلطّي، ولا يشجّع الآخرين على إغضاب الطاغوت الأمريكي، ونحن في مرار وهلع لم نعرفه من قبل، وجاء هذا مترافقاً مع موجة برد هي الزمهرير بعينه، وليس ثمّة وقود لدى الناس، ومَن توفّر له شيء منه فهو ضنين به، ويخاف أن يستهلكه.

أمّا عن الأصدقاء، فالذي بقي منهم أحياناً أرى أحدهم في أوقات متباعدة، فلكلّ امرئ منهم يومئذ شأن يُغنيه.

شكراً لمباركتك لي بصدور مجموعتي الشعرية الثلاثين عن اتحاد الكتّاب العرب بدمشق، ولا أكتمك أنّي كنتُ فيما مضى أفرح لصدور مجموعة شعريّة، أمّا مع هذه المجموعة فلم أشعر بأيّ بهجة، لقد غُيِّب الفرح وراء تلال المآسي، والبرْد، والحاجة، لقد قتلوا فينا المشاعر، وهذا أمر بالغ الخطورة، وله نتائجه النفسيّة، والاجتماعيّة.. الإحساس بطعم المرار هو الغالب يا صديقي.

أمّا عن الشعر فقد أقفلْتُ بابه منذ كانون الثاني 2020، وأشعر الآن أنّ ما يجري يُعجِز أمثالي، فالشعر يحتاج في الحدود الدنيا إلى حياة شبه مقبولة، ربّما يرى البعض أنّ الآلام قد تحرّض الشعر، وقد يكون في هذا بعض الصواب، بيد أنّ الآلام حين تكون بدرجة عالية، كالتي نواجهها، فقد تُذهِل لدرجة الصمت الأليم، البليغ، ولكنّ هذا لم يحجب تذوّقي لكلّ إبداع في أيّ فن كان.

سألتَني عن مكتبة الأشرطة، وذكّرتني بتلك الجلسات التي كنّا نجتمع فيها على النّغم الريفي، أو العراقي، أو الطرب الأصيل، أو الكلاسيك، فألقيتَ حفنة نار في الذاكرة، يا صديقي، الأشرطة موزّعة على رفوفها، وقد تجاوزها الزمن تقنيّاً، فـ “السي دي” هو السائد الآن، وآلتا التسجيل معطّلتان وأصبح مَن يصلّحها نادراً، وأنا نفسي الذي كان يؤنسني ما في الأشرطة وهو يملأ جوّ البيت أصبحتُ أتهيّب السّماع، حتى لكأنّه كان مرتبطاً بتلك الأزمنة.

في الزلزال الذي ضرب حلب نقلتْ الكاميرا صورة للدمار المخيف، وأحد المُنقذين ينتشل طفلاً ولدتْه أمّه لحظة الزلزال وماتت، فظلّ حيّاً، وكان يرافق ذلك موسيقا كلاسيكية معبّرة، فأحسستُ بشيء يشبه شهاباً من نار يخترق صدري فأشحتُ بوجهي، ولم أستطع إغلاق سمعي، وتوقّفتُ عند هذه الحياة الممنوحة لهذا الوليد، ولو كان الأمر لي لسمّيتُه “ناجي” إذا كان ذكراً، أو “ناجية” إذا كانت أنثى.. ستبقى الولادة بين الأنقاض رمزاً حيّاً في هذه الأرض.

حمى الله بلدك الشقيق من كلّ سوء…

aaalnaem@gmail.com