المنافقون والفاجعة
أحمد حسن
لا حصيلة نهائية للزلزال.. ذلك ما تقوله إحصائيات اليوم الحسابية الرقمية، وذلك أيضاً ما تقوله القلوب المكلومة والأرواح الثكلى، ورغم اتفاقهما في “القول” إلا أن الفرق بينهما، في “المقاربة”، شاسع وكبير، فالأولى، أي الإحصائيات، ستستقر يوماً ما على رقم نهائي عن الشهداء والمصابين والمتضرّرين، لكن الثانية، أي القلوب، ستبقى، طالما هي حيّة، تعدّ وتحسب ما لا يمكن للأرقام أن تحتويه.
إنها الفاجعة إذاً.. ولا شيء يمكن أن يعبّر عن مضمونها مثل الصورة الحيّة أو شهادات المسعفين والناجين والفاعلين على الأرض التي تغني عن كلام الجميع لأنها، وبصدورها من القلب، الأبلغ والأقدر على تحديد الوجع، بينما كان “الحزن الذي اعتصر” قلب المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، تعاطفاً مشكوراً من الرجل لكنه لا يكفي وحده في التعبير عما حصل أولاً ومعالجته ثانياً.
إنها الفاجعة إذاً.. لذلك هناك ما يجب أن يُقال، في هذا الوقت تحديداً، حول مَن لم تحرّك فيهم المأساة شعرة واحدة، وبالطبع لن نتوقف عند رفض “الجماعة الإرهابية”، التي تأخذ الأهالي في إدلب الخضراء رهائن، إدخال قافلة مساعدات سوريّة للأهل هناك، فهذا رفض لا تملكه هذه “الجماعة” وحدها، ولن نتوقف أيضاً عند صمت “جامعة الدول العربية” مثلاً، فذلك لزوم ما لا يلزم، وخاصة أن مجلس الأمن الدولي احتاج إلى أكثر من ثمانية أيام حتى يجتمع لـ “دراسة” الوضع الإنساني في سورية!، لكن ما يجدر بنا التوقّف عنده هو كشف “الولايات المتحدة”، وإن من حيث لم تقصد، عن نفاقها الفاقع والفاجر كما عن كذب ونفاق كل من هوّن سابقاً من عقوباتها الاقتصادية – وتحديداً قانون “قيصر” – بدعوى أن هذه العقوبات تقتصر على جهات سورية محدّدة، وبالتالي لا تطول الشعب السوري ولا تعيق مسار حياته أو تؤثر فيه.
والحال أن “الاستثناء” الذي أصدرته وزارة الخزانة الأمريكية لعقوباتها على سورية كان أكبر دلائل النفاق لأنه كشف بمبناه ومعناه ومنطوقه، وخاصة جملة “تعليق بعض البنود العقابية لمدة ستة أشهر”، أن القانون، أي “قيصر”، يشكّل عقبة ليس فقط أمام تحرّكات جهاتٍ محدّدة بل أمام المساعدات الإنسانية أيضاً، وهذا يعني “أغذية وأدوية وتحويلاتٍ مالية بسيطة” وما إلى ذلك من شؤون الحياة المعتادة، ليظهر بالمحصلة كم كان، وما زال، هذا القانون فاجراً وقاتلاً لشعب كامل، وكم كانت عملية التقليل من تبعاته مشاركة فعلية في الجريمة.
وبالطبع، فإن صور النفاق التي كشفها هذا “الاستثناء” لا تتوقف على ذلك وهناك الكثير منها، فمن جهة أولى لم يكن دافع إصداره إنسانياً، كما تروّج واشنطن وإعلامها “العربي!”، بل سياسيٌ بحتٌ دافعه الأول والرئيس خشيتها من تسارع تدحرج كرة “التفلّت” العالمية، والعربية تحديداً، من سيف العقوبات الجائرة أمام حجم هذه المأساة، وهذا ما يفسّر تأخر صدوره خمسة أيام بعد الزلزال، ما يعني خسارة إضافية لأرواح بشرية سوريّة كان يمكن إنقاذها، ومن جهة ثانية جاءت “الاستثناءات” الكثيرة في قلب هذا “الاستثناء” لتفرّغه من مضمونه عملياً حيث لم يعُد أحد يعرف أين يبدأ “الإنساني” به وأين ينتهي، وما هي الحالات التي تندرج تحته فعلياً، وما هو المسموح والممنوع، والأهم متى تقرّر “الخزانة الأمريكية” محاسبتك على ما ظننت أنه مسموح!
إنها الفاجعة إذاً.. وإنهم – وتلك حالهم دائماً – كاذبون ومخادعون، لذلك فإن ما يعنينا، نحن الذين اعتدنا على نفاقهم، أن نواصل البناء على معدن السوريين الأصيل، الذي أعادت هذه المأساة صقله وتظهيره، كي ننتقل اليوم، وقبل الغد، لما هو أبعد من مجرّد عمليات الاستجابة السريعة لهذه الفاجعة، أي نحو الإعمار وإعادة التنمية “بشكل أفضل ممّا كان قبل الزلزال وقبل الحرب”، ليس للحجر فقط بل للبشر أولاً وقبل أي شيء آخر، وبذلك فقط نخطو خطوة كبرى نحو بلسمة جراح المكلومين وإعادة الألق لسورية وللسوريين جميعاً.