تقشف أم إعادة ترتيب للموارد.. أزمات وأولويات وتراكم مؤجلات الإنفاق تعقد الفاتورة المدفوعة لاحقاً!
ليس جديداً على حكومات الأزمات أن تحزم أمرها باتجاه “شدّ الأحزمة” على بطون المؤسّسات تجنباً للوقوع في شر العوز المدقع الذي لا تُحمد عقباه، ولاسيما أنه ورغم سنوات الحرب والأزمات مازال التحدي الذي لم تستطع كبريات الدول الاقتصادية إليه سبيلاً بأن الدولة مستمرة والدليل التحكم بكل القطاعات والمفاصل الاقتصادية والمعيشية.
يمكن القول إن ثمة جهات يتطلب عملها تحويلات مالية مركزية لا تقبل التأجيل، ليس الهدف منها الرواتب والأجور التي تعدّ عند بعض المؤسسات الصرفيات الوحيدة واليتيمة في ظل تحفظ “المالية” على أي إنفاق، بل المسألة مرتبطة بخدمات ترتبط مباشرة بصلب الحياة اليومية للناس، وهنا مربط الفرس الذي تشتغل عليه الحكومة، وقوامه تفضيل الأولويات على أي كماليات أو شؤون تحتمل الترحيل إلى الأمام.
ومع إدراك أصحاب القرار ومعهم المجتمع بكافة شرائحه بأن سلم الأولويات متفق على درجاته، فإن تأمين مستلزمات الحياة الأساسية من مواد غذائية ودوائية له الصدارة، في الوقت الذي لا يجد البعض فرقاً بين هذا المنتج أو تلك الخدمة ولو كانت صغيرة، فتراكم المؤجلات قد يوصل إلى مستوى لا يمكن من بعده الحلّ نظراً للتعقيد وتعاظم الفاتورة التي ستدفع لاحقاً.
مرحلة “التباخل”
هنا يمكن القول إن الدخول في تفاصيل الأداء الإنتاجي والخدمي يحتّم على المعنيين الوصول إلى مرحلة “التباخل” المطلوب، ولكن هذا الفعل يتنافى مع متطلبات التوظيف التي تستلزم نفقات مباشرة لزوم الصيانة والتشغيل لبعض المعدات والتجهيزات، ليس لشركة أو معمل منتج بل لمستوى بلدية صغيرة يشكو مجلسها المحلي من فقر حال، ولاسيما أن السلطات المحلية المعنية أوعزت بعدم صرف أي مبلغ ولو كان صغيراً إلا على الرواتب، أما ما عدا ذلك فيمكن تأجيله، وهذا ما لا يقبل التطبيق في ظلّ تعطل بعض الشبكات وأنابيب المياه والصرف وحتى خطوط الهاتف والكهرباء.
توازن الميزان
بالعموم، هناك دراية ومراعاة للظروف ولكن أن تصل الأمور إلى درجة خلو صناديق بعض الجهات الخدمية من أي مبالغ يعدّ تطوراً مؤرقاً، ما يحدو بالحكومة لإقرار خطة وبرامج تنفيذية لتحديد أولويات الإنفاق وضمان تعزيز المخازين من المواد الأساسية والمشتقات النفطية والأدوية، وذلك بهدف مواجهة تداعيات الأزمات.
وفي الأولويات هناك ما يدعو لتحقيق التوازن في الميزان التجاري الخارجي، ما يؤدي إلى تأمين مستلزمات الإنتاج الزراعي للموسم الحالي، والتشدّد بمنع تهريب أي مواد إلى خارج سورية، وإعطاء الأولوية لتأمين المحروقات اللازمة، بالتوازي مع تشديد الرقابة على سوق الصرف “لإبقائه ضمن مستويات متوازنة والترشيد في تخصيص القطع خلال هذه المدة لتلبية الاحتياجات الأكثر ضرورة والعمل على ترشيد الإنفاق العام وتوجيهه للمشاريع الأكثر جدوى اقتصادية”.
هنا لا تتوانى رئاسة الوزراء عن التأكيد بأن “الحكومة تعمل لتعزيز الكميات المتوافرة من مختلف المواد تفادياً لأي تداعيات سلبية قد تحصل نتيجة الأزمات”، مع التشديد على جميع الوزارات لتوجيه الإنفاق إلى القضايا التي تصبّ بشكل مباشر في خدمة المواطنين.
أين فرق العمل؟
ويخرج العديد من المحللين بتوجيه الخطاب نحو المجلس الأعلى للتخطيط الاقتصادي والاجتماعي المنوط به ترتيب أولويات الإنفاق الاستثماري والجاري في الموازنة العامة للدولة لتسهم بتعزيز الصمود وتوفير الاحتياجات الأساسية، ودعم الإنتاج ومواجهة الإجراءات الاقتصادية القسرية أحادية الجانب المفروضة.
ويرى د. أحمد محمد الخبير الاقتصادي بأن الحاجة ماسة لضبط الإنفاق الإداري واستخدام الوفورات لدعم المؤسّسات الاقتصادية الأكثر إنتاجية لمواجهة الصعوبات والتحديات في قطاع النفط والطاقة، مع المحافظة على أساسيات توجّه الموازنة لجهة تأهيل البنى التحتية لقطاع النفط وتأمين القمح والدواء وتعزيز الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي ودعم المشاريع الإنتاجية والتنموية. بالتوازي مع الاستمرار في تحقيق مبدأ الاعتماد على الذات والتركيز على التوسّع بالمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر والزراعات الأسرية ومشاريع التنمية الريفية، والاستمرار بتنفيذ خطة إحلال بدائل السلع المستوردة.
د. محمد يرى أولوية متابعة الخطط التفصيلية للوزارات وتصويبها لتتوافق مع قرارات المجلس الأعلى للتخطيط والاستمرار بتمويل القطاع العام الاقتصادي وتنفيذ الخطة التنموية الشاملة، متسائلاً عن فرق العمل التي لطالما شكلت لإعداد نظام متكامل لإدارة الموارد المالية لجميع الجهات ومراقبتها.
متطلبات استثنائية
هنا لا يتوانى الخطاب الحكومي عن نفي وجود أي انكماش أو تقشف بالموازنة، إنما إعادة ترتيب الموارد نحو الإنتاج والاعتماد على الذات وتنفيذ خطة الدولة بما يحقق متطلبات المواطنين وضبط الهدر وترتيب الأولويات وفق ما تتطلبه الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها سورية، ومثالها في هذا المضمار وزارة الزراعة التي تعمل على دعم القطاعات الإنتاجية مثل المؤسّسة العامة لإكثار البذار عبر زيادة الطاقة الإنتاجية لمركز إنتاج بذار القمح وتغطية متطلبات المنتجين الزراعيين، والتركيز على البرنامج الوطني لإكثار بذار البطاطا، وتفيد توضيحات حكومية أن هناك جهوداً لزيادة الدعم لقطاع الثروة الحيوانية والدواجن، وتوجيه الاعتمادات الاستثمارية لتطوير التنمية الريفية عبر برامج الزراعة الأسرية وبعض المنح الإنتاجية التي تساعد على تحسين دخل الأسر.
الإصلاح المحاسبي
من جهته يقول المحلّل المالي ماهر الأمين بأنه نتيجة لتحول الاهتمام الأساسي للموازنة العامة للدولة عبر مراحل تطورها وانتقالها من مرحلة الموازنة التقليدية إلى موازنة البرامج والأداء، ثم إلى موازنة التخطيط والبرمجة، كان لابد من ضرورة الإصلاح المحاسبي الحكومي في النظام المحاسبي السوري أمام متطلبات التوسّع الكبير في الإنفاق العام، وكان لابدّ من تزايد الاهتمام بترشيد الإنفاق الجاري في الوحدات الإدارية الحكومية كونها في الغالب هيئات خدمية تعتمد على النفقات الجارية في ظلّ نظامٍ محاسبي مقتصرٍ على الرقابة المالية والقانونية، بغضّ النظر عن مدى تحقيق الكفاءة والفعالية مما يفسح المجال للإسراف وتبديد الموارد الحكومية، لذلك يتناول الباحثون واقع الإنفاق الجاري الحكومي بغرض تحديد مواطن الضعف في النظام المحاسبي الحكومي بهدف ترشيد الإنفاق وتوجيهه للتطوير والتنمية.
علي بلال قاسم