مجلة البعث الأسبوعية

الفقر العالمي لا يختزل بالحدود الوطنية

البعث الأسبوعية- عناية ناصر

لطالما كان الفقر مشكلة كبيرة تواجه البشرية دائماً، حيث يمكن القول إن الفقر مرض عالمي يكاد يكون من المستحيل علاجه طالما استمرت الاتجاهات السياسية والاقتصادية الحالية. لا يوجد تعريف واحد للفقر، ولكن يمكن القول إن التعريف الدقيق للفقر هو الحالة التي “يفتقر فيها الفرد أو المجتمع إلى الموارد المالية أو الضروريات لتحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة”. وضمن هذا الإطار، صنفت وحدة معلومات الفقر في اسكتلندا الناس على أنهم فقراء “إذا لم يكن لديهم الموارد الكافية لتلبية احتياجاتهم المادية وإذا كانت الظروف تمنعهم من المشاركة النشطة في الأنشطة التي تعتبر طبيعية في المجتمع “.

قد يُترك الأفراد والأسر الذين أصابهم الفقر دون سكن لائق ومياه نظيفة وغذاء صحي ورعاية طبية، فالفقر هو حالة اجتماعية واقتصادية ناتجة عن عوامل متعددة، وليس الدخل فقط، مثل العرق أو الإثنية أو العمر أو الجنس أو القدرة على الحصول على التعليم. في الوقت نفسه، الفقر هو مشكلة فردية ولكنه أيضاً مشكلة اجتماعية أوسع، فعلى مستوى الفرد أو الأسرة، يمكن أن يؤدي عدم القدرة على تغطية النفقات إلى عدد من المشكلات النفسية والبدنية. أما على المستوى الاجتماعي، تعد معدلات الفقر المرتفعة عقبة أمام تحقيق النمو الاقتصادي، ويمكن أن تسبب مشاكل مثل البطالة والجريمة والاضمحلال الحضري والريفي وتهديداً عاماً لصحة الأمة.

أشكال الفقر

الفقر المدقع  ليس هو الفقر الذي يتسم بالدخل المنخفض فحسب، بل الذي يتسم أيضاً بحالة لا يستطيع فيها الناس تحمل  أبسط ضروريات الحياة، وهو مقسم إلى فقر مطلق، وفقر نسبي، فالفقر المطلق هو الحالة التي لا يستطيع فيها الشخص تأمين الحد الأدنى من الطعام أو الملابس أو المنزل. أما الفقر النسبي فهو حالة يكون فيها دخل الأسرة أقل من نسبة مئوية معينة، و ما تكون 50٪ أو 60٪ من متوسط الدخل في ذلك البلد.

الفقر متعدد الأبعاد الذي قدمته الأمم المتحدة في برنامجها الإنمائي في عام 2010، هو نوع من الفقر الذي يظهر أن الفقر لا يتعلق دائماً بالدخل فقط، ففي بعض الأحيان، قد يكون دخل الفرد أعلى من خط الفقر، لكن عائلته لا تحصل على الكهرباء، ولا على مياه شرب نظيفة، ولم يكمل أي فرد في الأسرة تعليمه الابتدائي. وهناك 10 مؤشرات رئيسية للفقر متعدد الأبعاد هي : التغذية- وفيات الأطفال- سنوات التعليم- الالتحاق بالمدارس- الظروف الصحية- مياه الشرب- الكهرباء-الطاقة- السكن- الممتلكات- الزيت- الطبخ، فإذا كان الشخص يعاني الحرمان من  ثلاثة أو أكثر من هذه المعايير، فهو يعتبر فقير متعدد الأبعاد.

يتم قياس الفقر من قبل حكومة كل بلد التي تقوم بجمع البيانات من خلال المسوح الأسرية لسكانها، و يمكن القول إن خط الفقر –العتبة- هو الحد الذي يصعب، إن لم يكن من المستحيل، القدرة على تحمل الضروريات الأساسية للحياة بسبب صعوبة الحصول عليها. لكن خطوط الفقر ليست هي نفسها في جميع البلدان، ففي البلدان ذات الدخل المرتفع  تكون تكاليف المعيشة أعلى، وبالتالي فإن خط الفقر أعلى أيضاً.  أما في 33 دولة منخفضة الدخل فقد بلغ خط الفقر 1.90 دولار للفرد، أما في 32 دولة ذات دخل متوسط أدنى، مثل الهند والفلبين، بلغ الحد 3.20 دولاراً للشخص الواحد. وفي 32 دولة ذات دخل متوسط أعلى، مثل البرازيل وجنوب إفريقيا ، يبلغ الحد الأقصى 5.50 دولار للفرد. بينما في 29 دولة ذوات الدخول المرتفعة، فإن الحد الأقصى هو 21.70 دولاراً للشخص الواحد. وبناء على ذلك فإن خط الفقر العالمي محدد حالياً عند 1.90 دولار في اليوم، ويشكل المعيار العالمي لقياس الفقر في العالم.

الفقر في العالم بالأرقام

عند النظر إلى الأرقام الفعلية، تبدو البيانات المتعلقة بالفقر في العالم مذهلة، حيث يموت ما يزيد عن 21000 شخصاً كل يوم نتيجة للفقر. كما أن  689 مليون شخص يعيشون في فقر مدقع وعلى أقل من 1.90 دولار في اليوم، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، يعيش  10.5٪ من السكان، أو 34 مليون شخص في فقر، حيث يبلغ خط الفقر للفرد الأمريكي 12880 دولاراً في السنة، أي 35.28 دولاراً في اليوم.

يشكل الأطفال والشباب ثلثي فقراء العالم، كما تحتل النساء الصدارة في معظم مناطق العالم، ويتركز الفقر المدقع بشكل متزايد في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فحوالي 40٪ من سكان تلك المنطقة يعيشون على أقل من 1.90 دولار في اليوم. كما تضاعفت معدلات الفقر المدقع تقريباً في منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا بين عامي 2015 و 2018، من 3.8٪ إلى 7.2٪ ، ويرجع ذلك أساساً إلى الأزمات في عدة دول منها اليمن. وعلى الرغم من أن البلدان المتأثرة بعدم الاستقرار والأزمات والعنف تمثل ما يقرب من 10٪ من سكان العالم، إلا أنها تُولد أكثر من 40٪ من الأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع. وتشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2030، سيعيش 67٪ من فقراء العالم في ظروف هشة، فحوالي 70 ٪ من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 15 عاماً والذين يعيشون في فقر مدقع ليس لديهم مدرسة أو تعليم أساسي فقط. ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة، يعيش 1.3 مليار شخص في 107 دولة نامية، والتي تشكل 22٪ من سكان العالم، في فقر متعدد الأبعاد، حيث يعيش حوالي 84.3٪ من الفقراء متعددي الأبعاد في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيان كما يعيش ما يصل إلى 644 مليون طفل في فقر متعدد الأبعاد.

تجدر الإشارة إلى أن هناك 10 دول توجد فيها أعلى معدلات فقر في العالم هي: جنوب السودان (82.30٪)، غينيا الاستوائية (76.80٪)، مدغشقر (70.70٪) ، غينيا بيساو (69.30٪)، إريتريا (69٪)، سانت توماس و رينسيبي (66.70٪) ، بوروندي (64.90٪) ، جمهورية الكونغو الديمقراطية (63.90٪) ، جمهورية أفريقيا الوسطى (62٪) وغواتيمالا (59.30٪).

الاتجاهات الحالية والمستقبلية

يهدف قادة العالم كجزء من سياسة التنمية المستدامة للأمم المتحدة إلى القضاء على الفقر المدقع في العالم بحلول عام 2030، لكن ما هو القدر الذين يريدون تحقيقه؟. فيما يتعلق بذلك فعلياً هو سؤال قابل للنقاش، خاصة وأن أعظم النجاحات في القضاء على الفقر المدقع قد تحققت في الصين والهند، ففي كانون الأول 2020، أعلنت الصين أنها قضت تماماً على الفقر المدقع. أما في حالة الهند، فقد أدى النمو الاقتصادي القوي إلى خفض معدلات الفقر المدقع إلى 77 مليوناً، أو 6٪ من السكان في عام 2019. ومع ذلك، شهدت الهند ارتفاعاً قصير الأجل في معدلات الفقر بسبب فيروس كورونا، حيث تشير التقديرات إلى أنه بحلول عام 2030 من المرجح أن تقضي الهند على الفقر المدقع لأكثر من 5 ملايين شخص يعيشون على أقل من 1.90 دولار في اليوم.

وفي أجزاء أخرى من العالم، تعتبر اتجاهات الفقر مخيبة للآمال، ففي أمريكا اللاتينية، انخفض الفقر بشكل حاد في بداية القرن الحادي والعشرين، لكنه أخذ في الازدياد منذ عام 2015، مع عدم توقع حدوث انخفاض كبير حتى نهاية هذا العقد. و في أفريقيا، الفقر آخذ في الازدياد بفضل النمو السكاني السريع، وركود النمو الاقتصادي، كما تسبب الوباء في زيادة الفقر بنسبة 11٪ ، ولا يُظهر الفقر الأفريقي أي علامات تذكر على الانخفاض بحلول عام 2030، وتشير الاتجاهات إلى ظهور شكل مختلف تماماً من الفقر.

كان الفقر في عام 1990  متمركزاً في البلدان الآسيوية منخفضة الدخل، إلا أن الفقر الحالي والمستقبلي سيكون في الغالب  في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في الدول غير المستقرة المتأثرة بالصراع السياسي. وبحلول عام 2030، ستشكل بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى 9 من البلدان العشرة التي يتواجد فيها أكبر عدد من الفقراء، وسيعيش 60٪ من فقراء العالم في بلدان هشة ومتأثرة بالصراعات. و ستكون الدول التي بها أكبر عدد من الفقراء في العقد القادم نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وموزامبيق والصومال، ونتيجة لذلك ستتعقد الجهود العالمية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة بحلول عام 2030، بما في ذلك القضاء على الفقر المدقع، بسبب تركيز الفقر في هذه المناطق التي يصعب الوصول إليها. وبحلول عام 2030، لن يتم ربط الفقر ببلدان محددة فحسب، بل سيتم ربطه أيضاً بأماكن محددة داخل تلك البلدان، كما ستكون البلدان ذات الدخل المتوسط موطناً لما يقرب من نصف فقراء العالم في تحول دراماتيكي عما كانت عليه قبل 40 عاما فقط.

أسباب الفقر والعوامل السياسية

تشمل الأسباب الأكثر شيوعاً للفقر: النزاعات السياسية، وعدم المساواة الاجتماعية، والافتقار إلى الوظائف عالية الأجر، وسوء نظام التعليم، وتغير المناخ، ونقص الاحتياطيات، والبنية التحتية المتخلفة، وغياب برامج الرعاية الاجتماعية الحكومية، والأزمة الصحية العالمية ، إلخ.

يمكن للنزاعات السياسية -الإرهاب والحروب- أن تسبب الفقر بعدة طرق، حيث يمكن للعنف طويل الأمد والواسع النطاق الذي نراه في بلدان مثل العراق وليبيا واليمن أن يوقف المجتمع، ويدمر البنية التحتية ويجبر الناس على الفرار، مما يجبر العائلات على بيع أو ترك جميع ممتلكاتهم. كما يمكن للمستوى المنخفض نسبياً من العنف أن يكون له تأثير كبير على المجتمعات. على سبيل المثال، إذا كان المزارعون قلقين من حرق محاصيلهم أو نهبها، فلن يستثمروا في زراعة المحاصيل الزراعية، كما أن النساء أيضاً معرضات بشكل خاص في جميع النزاعات، لأنهن غالباً ما يصبحن أهدافاً للعنف الجنسي أثناء العمل أو في المنزل.

عند النظر إلى العوامل السياسية كسبب للفقر، لا ينبغي بأي حال اختزالها إلى الحدود الوطنية للدول الفردية، لأن الدول الكبيرة يمكن أن تُسبب الفقر في الدول الصغيرة الأخرى من خلال سياساتها، وخير مثال على ذلك الاستغلال الاستعماري للبلدان الأفريقية والآسيوية والأمريكية من قبل المستعمرين الأوروبيين. على الرغم من انتهاء عصر المستعمرات، لكن القوى العظمى مثل الولايات المتحدة، وبعض القوى الإقليمية، يمكن أن تقود الدول الصغيرة الأخرى إلى الفوضى بقراراتها، وهي أرض خصبة لنمو الفقر، وما حدث بعد التدخلات الأمريكية في العراق وأفغانستان وليبيا لا يحتاج إلى شرح كثير.

أسباب أخرى

إن عدم المساواة الاجتماعية هو، إلى جانب السياسة، المصدر الأكثر شيوعاً للفقر، فعندما يكون لدى مجموعة ما حقوق وموارد أقل بناءً على هويتها مقارنةً بأعضاء آخرين في المجتمع، فهذا يعد عدم مساواة اجتماعية. يمكن أن يستند التهميش الاجتماعي إلى الجنسية، والعرق، والعمر، والصحة، والوضع الاجتماعي، والجنس.

كما يعتبر نظام التعليم الضعيف محركاً قوياً للفقر، وليس كل شخص بدون تعليم يعيش في فقر، لكن معظم الفقراء ليس لديهم تعليم، والسؤال هو لماذا؟. هناك العديد من المعوقات التي تمنع الأطفال من الذهاب إلى المدرسة، حيث لا تستطيع العديد من العائلات تحمل تكاليف إرسال أطفالها إلى المدرسة، لأنهم بحاجة إليهم للعمل في مزارع العائلة، كما لا تزال العديد من العائلات لا ترى فائدة في تعليم الفتيات. غالباً ما يوصف التعليم بأنه وسيلة للهروب من الفقر، لأنه يمكن أن يفتح الباب لاكتساب المعرفة والمهارات للحصول على وظائف بأجر جيد. وفي هذا السياق قدرت “اليونسكو” أنه يمكن انتشال 171 مليون شخص من براثن الفقر المدقع  من خلال المزيد من التعليم، إضافة إلى خفض مستوى الفقر في العالم إلى النصف.

يمكن لتغير المناخ أن يدفع أكثر من 100 مليون شخص إلى هوة الفقر هذا العقد، فللكوارث المناخية مثل الجفاف والفيضانات والعواصف الشديدة تأثير مدمر على المجتمعات التي تعيش بالفعل في فقر، حيث يعتمد العديد من أفقر سكان العالم على الزراعة والصيد لكسب العيش، وعندما تترك الكوارث الطبيعية ملايين الأشخاص بدون طعام، فإنها تدفعهم إلى مزيد من الفقر، وقد يكون التعافي أكثر صعوبة. و بالنسبة للمجتمعات التي تواجه بشكل متكرر مناخات قاسية أو نزاعات طويلة الأمد، فإن الصدمات المتكررة يمكن أن تضع الأسر في فقر مدقع وتمنعها من التعافي على الإطلاق.

يمكن أن يؤدي الافتقار إلى البنية التحتية إلى عزل المجتمعات التي تعيش في المناطق الريفية، حيث لا تتاح لهذه المجتمعات فرصة الذهاب إلى المدرسة أو العمل أو السوق لشراء وبيع البضائع. يوجد لدى بعض البلدان برامج مساعدة اجتماعية تساعد المحرومين اجتماعياً على شكل مساعدات مالية وغذاء ورعاية صحية، وتأمين الدعم الذي يمكن للأشخاص الاعتماد عليه في حال فقدوا وظائفهم. ومع ذلك، لا تستطيع كل حكومة تقديم هذا النوع من المساعدة لمواطنيها مما يجعل الأسر الضعيفة فريسة الوقوع في براثن الفقر المدقع.

لقد تجلى تأثير الأمراض، وخاصة الأوبئة على المجتمع بشكل واضح خلال السنوات الثلاث الماضية خلال أزمة كورونا. ومع ذلك، فإن أزمة وباء كوفيد-19 ليست الأزمة الصحية الأولى التي دفعت إلى الفقر، حيث أظهرت الأوبئة المحلية مثل الإيبولا في إفريقيا، والكوليرا في هايتي والكونغو، أو الملاريا في سيراليون كيف يمكن للسلطات المحلية والحكومات الوطنية إهمال أشياء أخرى أثناء العمل على وقف انتشار المرض وتوفير الموارد لعمل الطاقم الطبي.

الحلول الممكنة

من أجل القضاء على الفقر، من الضروري تحسين مرافق البنية التحتية والخدمات العامة مثل المدارس والمستشفيات، وتسهيل الوصول إلى المياه النظيفة والكهرباء، كما يحتاج الناس إلى تزويدهم بالموارد لزيادة دخلهم. ومهما كان الحل للحد من الفقر العالمي فإنه يجب أن يكون مستداماً، كما يجب إشراك المجتمعات الجادة والمخلصة في كل خطوة من التخطيط إلى تنفيذه. ومن أجل القضاء على الفقر المدقع في العالم بنجاح، من الضروري استثمار مبلغ معين من المال لهذا الغرض. وفي هذا السياق تقدر الأمم المتحدة أن التكلفة السنوية الإجمالية للقضاء على الفقر المدقع ستصل إلى حوالي 175 مليار دولار، وهو أقل من 1٪ من إجمالي دخل أغنى دول العالم. وتظهر هذه البيانات أن القضاء على الفقر المدقع لا يتطلب سوى الإرادة السياسية ، وهو أمر غير موجود ، ويبدو أنه لن يكون موجوداً لفترة طويلة.