الزلزال: بين الإنساني والسياسي
د. عبد اللطيف عمران
رجال السياسة الكبار هم الذين سجّل لهم التاريخ مآثر عظيمة في الدفاع عن القيم الإنسانية وترسيخها في نفوس شعوبهم وشعوب العالم فكانوا منارات عالية تهتدي بها الأمم على مرّ العصور، وكانوا قدوة أخلاقية وإنسانية في ضمائر شعوبهم.
ولطالما كان الموقف السياسي المحترم يتحلّى بطابع الشرف والصمود والمبدئية الأخلاقية والإنسانية، في هذا الإطار كان إعادة تأكيد السيد الرئيس بشار الأسد أثناء استقباله أمس مارتن غريفث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية على ضرورة إدخال المساعدات إلى (كل) المناطق في سورية بما فيها المناطق التي تخضع للاحتلال وسيطرة الجماعات الإرهابية المسلّحة.
ففي فجر 6/2/2023 ضرب زلزال مدمّر سورية راح ضحيته آلاف من السوريين إضافة إلى عشرات آلاف المشرّدين وآلاف المنازل المهدّمة والمتصدّعة والآيلة إلى السقوط، وفي معمعان الزلزال وهزّاته الارتدادية ترأس السيد الرئيس بشار الأسد في الصباح الباكر اجتماعاً طارئاً لمجلس الوزراء وضِعت خلاله خطة تحرك طارئة على المستوى الوطني من سبعة بنود لمواجهة تداعيات الكارثة.
وبُعيد الاجتماع وجّهت سورية نداءً عالمياً إنسانياً ناشدت فيه: (الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، والأمانة العامة للمنظمة ووكلاتها وصناديقها واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمات الدولية والمنظمات الحكومية وغير الحكومية لمدّ يد العون ودعم الجهود التي تبذلها الحكومة السورية في مواجهة تداعيات الزلزال المدمّر في (جميع) أنحاء الجمهورية العربية السورية).
تأتي هذه المقدمة التأريخية كضرورة لتوثيق بعض من التداعيات السياسية والإنسانية الناجمة عن الزلزال، ولاسيما تأكيد الحكومة السورية في مناشدتها المجتمع الدولي ومنذ الساعات الأولى للمساعدة الإنسانية، وكما ورد أعلاه، في (جميع) أنحاء سورية.
إلّا أن تلبية هذه المناشدة أخذت عند البعض وقتاً غير قليل للحسابات والتفكير والمقارنة بين الضرورة الإنسانية والموقف السياسي، وذلك بما يخالف القانون الدولي الإنساني. وبما يدل على أن الموقف الغربي وتابعيه بمجمله من الوضع العام في سورية، قبل الزلزال وبعده، موقف ظالم وغير مبرر إنسانياً ولا أخلاقياً.
ونحن هنا لسنا في معرض جرد حساب سياسي، فمازلنا نئنُّ تحت وطأة ألم الفقد والجراح والدمار أنيناً طالما اقترن بنزوع إنساني حار ومديد من الزلزال، ومما قبل الزلزال من استهداف ظالم شاركت في ظلاميته وللأسف قوى عديدة محلية وإقليمية ودولية نترك للتاريخ وللواقع وللمستقبل بيان أمره وأمرها.
في الواقع منذ ما قبل الزلزال، وما بعده، اتضح أن هناك سياسات لاتزال مستمرة في مناهضة حقوق الشعوب في الاستقلال والسيادة والأمن والأمان، سياسات يقودها الغرب، ويجدد اقترافه لما ينتج عنها من ظلم وابتزاز وسلب لتطلّعات شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، سياسات لم تعد مقبولة من أصحاب الضمائر الحيّة والحقوق الشرعية والمشروعة في العالم، وها هي اليوم تقابل بالرفض وبالفضيحة وبالسعي الحثيث لنبذها ونكرانها والعمل على بدائل أكثر إنسانية وعدالة وقبولاً بحثاً عن عالم متعدد الأقطاب لا يخضع لابتزاز المركزية الغربية بغطائها الأمريكي المفضوح والذي يبدو آخذاً في مسار القلق والانفعال والاضطراب وصولاً إلى الشيخوخة والاضمحلال.
ولعلنا – نحن السوريين – صرنا بحكم الوقائع الأقدر على فضح إصرار الغرب السياسي وعملائه على سياسة ازدواجية المعايير، وتغليب السياسي على الإنساني، والنفاق الرائج لاعتبار عصابات التطرّف والتكفير والإرهاب أصحاب حقوق ودعاة حرية وتقدم وإنسانية، وجماعات يُراهن عليها سياسياً ووطنياً وإنسانياً، وجاءت كارثة الزلزال لتضع قادة الغرب وحكوماته في مواجهة قاسية مع النزوع الحضاري الإنساني الذي طالما عمِل مفكروه على تعزيز حضوره إنسانياً وعالمياً. وربما يكون موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من كارثة الزلزال واحداً من أهم ما يؤكد هذا ولا سيما قرار وزارة الخزانة الأمريكية برفع مراوغ لبعض العقوبات التي أسرف فيها قانون قيصر الوحشي، ولمدة محدودة.
فمع كارثة الزلزال حافظ سياسيو الغرب على نهج الحصار والعقوبات ضاربين عرض الحائط بما قدّمه مفكروه وأحراره ومستنيروه من نزوع حضاري وإنساني. وهذا موقف يجب استثماره سياسياً وثقافياً وإعلامياً من الشرفاء والأحرار في العالم لتوضيح مخاطر الغرب السياسي على العالم، وعلى العروبة والإسلام.
وبالمقابل فمن الواجب تسجيل موقف الشكر والتقدير لما قدّمه من مساعدات ومشاعر الأشقاء العرب شعبياً ورسمياً وبما يعبّر عن أن الأصالة العربية والحسّ العروبي الذي وإن مرّ في مرحلة كمون، فإنه سرعان ما يستعيد أصالته وضرورته وحضوره وبما يستحق الرهان عليه والصمود في سبيله رغم ما يواجهه من تحديات، مثالها انكفاء القلّة التي نترك أمرها لأحرار العرب، وللتاريخ. وكذلك الشكر والتقدير لشعوب العالم وقادته الذين بادروا إلى الاتصال للتعزية وتأكيد التضامن وتقديم المساعدة.
هذا الموقف الإنساني المتضامن مع سورية شعباً وقيادة من قبل دول شقيقة وصديقة قضّ مضاجع الذين يدّعون أنهم معارضة سياسية بينما هم خدم لأعداء سورية، يعملون معاً بذريعة بدعة وجود (انقسام سياسي) في سورية، ما يؤكد أن لا رهان لهم إلا على الجماعات الإرهابية المسلحة، وأنهم باعة دم وأوطان وقيم.
فمع الزلزال، وما قبله، لطالما توحّد السياسي والإنساني في موقف واحد ليثبت مرة جديدة أن سورية: الشعب والنظام السياسي، وفي معركتها مع الإرهاب ومشغّليه والمستثمرين فيه إنما تعكس موقفها الحقيقي في الدفاع عن قيم العدالة والتحضّر والثقافة الإنسانية ضاربة الجذور في أرضها وتاريخها، وهي نفسها القيم الأصيلة التي رسّختها الديانات السماوية في أرض الرسالات.