مجلة البعث الأسبوعية

ناظم مهنا رحيل مبكر ومؤلم لمثقّف من الطراز الرفيع

أمينة عباس

صدم رحيلُه المبكر كلّ من عرفه، فعدا عن كونه مثقفاً من الطراز الرفيع، وتجربته القصصية من أهم التجارب القصصية السورية والعربية الحديثة كان من الصعب على كلّ من يلتقيه ولو بشكل عابر إلا أن يقف مدهوشاً أمام طيبته ولطفه وإنسانيته وصفاء سريرته ودفء مشاعره.. كان لا يحبّ الأضواء، واتُّهم بالانعزال وعدم حبّ الظهور رغم اعتراف الكثيرين بأنه مبدع من نوع خاص ويستحق أكثر مما هو عليه إعلامياً ونقدياً، أما هو فكان يؤكد أنه منزوٍ وليس منعزلاً، وأنه نال التقدير اللازم.

الطرف الآخر للرمل

بدايات ناظم مهنا كانت مع الشعر، ونُشرت له قصائد في الصحف والمجلات العربية، وعدَّه كثيرون شاعراً فذاَ، وعلى الرغم من قوله في أحد حواراته أنه كان عليه أن يكون شاعراً إلا أنه انسحب من الساحة الشعرية باتجاه عالم القصة الذي تمسك به وفضَّله على غيره من الفنون الأدبية الأخرى التي كان يتقنها والتي لم تتخلص من تأثيرات الشعر لقناعته أن القصص تحتمل الانزياحات بين التخوم والحدود، ليؤكد في حواري معه ذات مرة أنه لم يبتعد عن الشعر وظل قارئاً يومياً له إلى أن توّج ذلك بديوانه “الطرف الآخر للرمل” الذي ضمَّ قصيدة واحدة كتبها بين العام 2006 والعام 2018 وهي ملحمة تُقرأ كشعرٍ وكسرد، وتناول فيها التحولات العربية الكبيرة وعدداً من التناقضات التي تعيشها المجتمعات العربية.

انحياز للقصة

وفي الوقت الذي أصبحت فيه القصة فناً مخذولاً من قبل الجميع كان مهنا يؤكد دائماً انحيازه لها لأنها فن يختزل إمكانيات هائلة للتعبير الجمالي والفكري، وبمقدور كاتبها أن يقول ما يريد عبر هذا النوع الأخاذ والرشيق والمكثف بعيداً عن الاستفاضة والثرثرة والإيغال في الغموض، وهذا ما جعله ينحاز إليها على الرغم من أنه يعي أنها لم تعد تلقى الاستجابة التي كانت تحظى بها في سبعينيات القرن الماضي حين كانت محتضَنة من الصحافة رغم ازدياد أعداد كتّابها عما كانت عليه في العقود السابقة، وواقعها لم يعد على ما يرام، وكان مهنا يرى أن انحسار القصة القصيرة ليس حالة محلية بل عالمية لا لأن القصص التي تُكتَب اليوم أقل قيمة من قصص الأمس بل لأنها تطورت وتعقدت وغدَت فنية أكثر من اللازم.

بيضة الديك

وصف النقاد مجموعتَه القصصية “الأرض القديمة” الصادرة عام 1997 بـ “بيضة الديك” وقد نالت اهتماماً كبيراً من الصحافة الثقافية ومن الكتَّاب، وقد حاول ناظم مهنا من خلالها تحريك الجو الكتابي بعد أن شعر أن الكتابة والقصص التي تُكتَب تكاد تتشابه، محاولاً فيها إيجاد صيغة لقراءتها كرواية وكقصائد نثرية وكقصة معاصرة، وتناول فيها الحكايات القديمة والأساطير وقدَّمها بطريقة حديثة، وكان بطلها المكان، وخاصة سورية-بلاد الشام، وعمل فيها على خلق أساطير موازية أو متواصلة مع القديمة، إضافة إلى حكايات أطلق عليها اسم “العلوم في الظلام” تحكي حضارتنا العربية، مبيناً أن علاقته مع الماضي ليست سلفيّة، وتفكيره حديث، ووعيه للحداثة أنها تواصل وليست قطيعة، وأن الكثير من الكتّاب نجحوا في التعبير عن ذلك من خلال استثمارهم للحكايات القديمة في كتاباتهم.

الكلاسيكي الجديد

رفض أ.ناظم مهنا أن تُصنَّف قصصُه في “مملكة التلال” بأنها قصص قصيرة جداً لعدم اقتناعه بهذه التسمية، مع تأكيده على أن القصة مهما كانت قصيرة فيجب أن يتوفر فيها بعض عناصر القص من حكاية وحدث وشخصيات، وهذا ما جعله يصف نفسه بـ “الكلاسيكي الجديد” لأنه يراعي القواعد الأساسية في الكتابة القصصية، مع الميل الجارف نحو التجريد وتحويل الوقائع إلى رموز ومعان لأنه ينفر من نقل الواقع كانعكاس مباشر.

ورداً على اتهام بعضهم له بغياب البعد الاجتماعي في كتاباته كان يرى أن كل ما كتبه من حالات سردية ومن مثيولوجيات حكائية أو قصص خيالية كان الإنسان دائماً هو المحور فيها، مع ميله إلى الارتياب في المقولات المكتملة والتشكيك في البديهيات بهدف تنشيط التفكير والخروج من الركون أو التسليم بما سبق، وهذا ما جعل فنّ القصّ من أولويات أهدافه ليرمي حجراً في الحوض الراكدعبر لغة أصبحت عند البعض غاية بحد ذاتها، في حين كانت بالنسبة له لا مجرد أداة تعبير بل كائناً حياً حاول فيه الابتعاد عن المفردات الصعبة والموحشة والاستعراض اللغوي إلى ما هو سلس ومتناغم مع المجاز والرمز والسرد والإيجاز.

تحدّ شخصيّ

كتب أ.مهنا للأطفال قصصاً وسيناريوهات في مجلة “أسامة” وتمثيليات إذاعية تجاوز عددها 150  صدر له عن المجلة كتيّبٌصاغ فيه ملحمة جلجامش بشكل مبسط، وكان يرى أن كتابته للأطفال نوع من التحدي الشخصي، وقد وجد نفسه في السنوات الأخيرة منغمساً بها، مع إيمانه أن الكتابة للصغار بالإضافة إلى كونها مسؤولية لها حساسية بالغة تحتاج إلى كاتب يحرر خياله وعقله ليحرّض خيال الطفل، وأن يكون مدركاً أن الأطفال أذكياء بلا حدود ومستعد ليتقبّل منهم التحريض والمماحكة كأنداد خارقي الذكاء، وأن يحظى بمودة الأطفال، فمن غير اللائق برأيه أن يبدو الكاتب متطفلاً على عالمهم بسماجة وظل ثقيل.

رواية واحدة

ولإيمانه أن القصة قادرة على احتواء كلّ الأفكار التي يريد التعبير عنها، ولأنه يتمتع بنفَس قصير في الكتابة ظل متردداً في كتابة الرواية على الرغم من تأكيده مراراً أن في جعبته نصوصاً تصلح لأن تكون رواية، وأنه من الممكن أن يتجه لهاليكتب رواية واحدة فقط يقول فيها كل ما عنده، إلا أنه رحل دون أن ترى هذه الرواية النور، مشيراً في زاويته “آفاق” التي كان يكتبها في صحيفة “تشرين” إلى أن واقع الرواية العربية يثير الشجون، باستثناء بعض الاختراقات، وعدَّ مهنا الرواية ظاهرة سردية كبرى في العصر الحديث، يختلط فيها ما هو واقعي مع ما هو خيالي، والواقعي التقليدي مع السرد الحديث، مع تأكيده على أن الرواية الواقعية مع كل ما طرأ من مستجدات على أساليب الكتابة الروائية لا تزال تحظى بأهمية عند القراء والنقاد والروائيين أنفسهم لأن كل المحاولات نوَّعت المشهد الروائي وأثرتْه إلا أنها لم تستطع برأيه أن تصمد أمام قوة ورسوخ الواقعية.

شهادات

مُثقّف سوريّ حقيقيّ

يقول أ.قحطان بيرقدار مدير منشورات الطفل في الهيئة العامة السورية للكتاب ورئيس تحرير مجلة “أسامة” أنه مع مطلع العام 2016 وتسلّمه رئاسة تحرير مجلة “أسامة” بدأ يتواصل مع الراحل ناظم مهنا، وأول ما لفتَ نظره طيبته ولطفه وإنسانيته بحيث يدخل القلبَ مباشرة ويؤثّر فيه، ومع توالي الأيام والسنوات عرفه أكثر، وعرف فيه من السجايا الجميلة الكثير،فهو مثقف من الطراز الرفيع ولا يحبّ الأضواءَ كثيراً، ولا يحبّ الرياء ولا التملّق، ويعامل الناسَ بطيبة، مشيراً بيرقدار إلى أن مكتبه في الهيئة العامة السورية للكتاب كان محطة لكلّ المثقفين والكُتّاب، يستقبلُهم فيه بحفاوة، ويُصغي إليهم، ويتحدث معهم بكلِّ جدّية ولُطف وعمق، وكان بيرقدار يزوره ليتعلم منه ومن التجارب التي مرّ بها لأنّه مثقفٌ معلِّم ومؤثّر، مبيناً أن القاصي والداني كان يعرف من هو ناظم مهنا في عالم الثقافة والأدب والصحافة، وهو من المثقفين النادرين والبارزين الذين تعبوا على أنفسهم كثيراً، إضافةً إلى ما انطوت عليه نفسه من صفات حميدة وأخلاق عالية، منوهاً بيرقدار إلى أن الراحل كان يقول له إن مجلة “المعرفة” العريقة التي كان رئيس تحريرها حتى وفاته ليست مجلةً أدبيّة فحسب بل هي مجلة ثقافية شاملة، وكان يعمل على أن يُعيدَ إليها ألقَها كما كانت في عهودها الذهبيّة، مجلة ثقافية شاملة متنوعة تستقطبُ جمهوراً واسعاً، ليسَ من السوريين فحسب بل من العالم العربي، وحين تسلم بيرقدار إدارةَ مديرية منشورات الطفل في الهيئة العامة السورية للكتاب في تشرين الثاني 2020 كان يستعينُ بمهنا في تحكيم بعض مخطوطات كتب الأطفال، فقدكان قارئاً بارعاً وموضوعياً وذا مهنيّة عالية، ليختم بيرقدار كلامه: “وداعاً الصّديق والزميل الأديب الأستاذ ناظم مهنا.. كنتَ مثالاً للمثقف السّوريّ الصادق الكريم النبيل المتواضع.. سَجاياك الجميلة أكثر من أن تُحصى.. أكثر من سبع سنوات عملٍ إلى جانبك في الهيئة العامّة السورية للكِتاب وأنتَ أجملُ من عرفتُهم وأصدقهم، وفي كلّ جلسة معك كانت مكانتُكَ تكبرُ في قلبي.. كنتَ فخراً لأصدقائك وأحبّائك ولكلّ مكانٍ عملتَ فيه.. ستبقى في القلب”.

رحيل دون ضوضاء

وبيّن الشاعر د.نزار بريك هنيدي أنه قلّ أن نجد في الوسط الثقافي كاتباً يحظى بمحبة الجميع وتقديرهم لأدبه وشخصيته، بعيداً عن جميع أشكال الشللية أو الولاءات أو الاعتبارات غير الأدبية، وهو الذي احترف الصحافة الثقافية منذ بداياته عندما كان مراسلاً لعدد من الصحف العربية، وحتى توليه رئاسة أعرق وأهم المجلات الثقافية في سورية مجلة “المعرفة” وقد استطاع أن يبقى على علاقة جيدة مع الكتّاب والمبدعين جميعهم على اختلاف أهوائهم وطبائعهم وأفكارهم وحظوظهم من الإبداع، معطياً كل كاتب منهم ما يستحق دون مجاملات أو أحكام تفتقد إلى الصدق والدقة، واستطاع بابتسامته المريحة وبلطفه ودماثته المشهودة وبصفاء سريرته ودفء مشاعره التي تطفح على وجهه الباسم أداء دوره بنجاح باهر مما جعل الآخرين على اختلافهم يبادلونه الثقة والمحبة، مؤكداً هنيدي أن هذا السلوك يستند إلى ثقافة متميزة عند هذا القارئ النهم للأعمال الأدبية والفكرية والفلسفية على تنوعها إلى درجة قلّ أن نجد مثيلاً لها عند الغالبية العظمى من المثقفين والأدباء والأكاديميين في هذه الأيام، وقد تجلت بشكل واضح في افتتاحياته المتميزة لمجلة “المعرفة” وفي الكثير من المقالات الفكرية والنقدية التي كان ينشرها، أما إبداعه الأدبي فهو برأي هنيدي يحتاج إلى الكثير من الدراسة للإحاطة بما قدمه من خصوصية لفنّ القصة القصيرة الذي كان يعشقه، واستطاع أن ينجز فيه الكثير من الأعمال المبهرة التي تحمل بصمته الخاصة، وكذلك أعماله الشعرية التي حملت سمات روحه التواقة إلى الغوص في أعماق التاريخ وتوحيد الزمن والبحث عن الحق والجمال، مبيناً هنيدي أنه فاجأنا برحيله المبكر وكأن روحه المجبولة من النبل والطيبة والرهافة لم تعد تستطيع تحمّل كل هذه المآسي التي تحيق بنا، فآثر الرحيل دون ضوضاء كما يليق بشخصيته المتميزة.

 سيرته

ولِد ناظم مهنا في مدينة جبلة عام 1960 وبدأ بكتابة الشعر بعد قراءات كثيرة في سن مبكرة، ثم تسلل إلى القصة، وفي مطلع المرحلة الثانوية شارك في مسابقة للقصة أجرتها المدرسة ونشر أول قصة له عام 1979 في مجلة “الثقافة” لصاحبها الشاعر مدحت عكاش، ثم بدأ النشر في الصحف اللبنانية منذ مطلع الثمانينيات، وسافر إلى بيروت وبقي فيها فترة من الزمن، ثم عاد إلى الدراسة في جامعة دمشق للّغة العربية، وفي دمشق ازداد انخراطه في الحياة الأدبية، وشغل منصب رئيس تحرير مجلة “المعرفة” التابعة لوزارة الثقافة منذ العام 2015وصدر له عدد من المجموعات القصصية، منها: “الأرض القديمة-منازل صفراء ضاحكة–حراس العالم–مملكة التلال” وكتاب “بابل الجديدة” وهو عبارة عن مقالات متنوعة في الثقافة والأدب، وكتيّبان عن الشاعرين الراحلين ممدوح عدوان ومحمد الماغوط ضمن سلسلة “أعلام مبدعون” الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.