الحب يليق بالسوريين
سلوى عباس
إنها لمفارقة مؤلمة أن يتحوّل الصخب إلى صمت، وأن يتساوى الصوت بالصدى، ولون الفرح بالضباب، فكما نجم يهوي ولا يعلن وقتاً لسقوطه المدمي، ومثل دمعة تقف في محجر العين ثم تذوي لتطفئ الصيف وتغمر الأرض باليباب، خلال دقائق تغيّرت أحوال الكثير من السوريين الذين باغتتهم الفاجعة في صباح مؤلم وحزين.
تتزامن الكارثة مع قدوم عيد الحب الذي عاشه السوريون على امتداد بقاع العالم حالة من السمو والرقي الروحي، تجسّد في التعاضد والتكافل مع أخوتهم المنكوبين. وأمام هذا المشهد يعيش المرء حالة من المشاعر المتداخلة بين الفرح والحزن معاً، وهو يتابع حركة السوريين في المحافظات المنكوبة، حيث تنادوا من كلّ المناطق السورية ليساعدوا أخوتهم الذين طالتهم الكارثة ويبلسموا جراحهم، فهؤلاء الناس رغم كل النكبات التي حلّت بهم ظلوا متمسكين بوجودهم وأخلاقهم، يتحدّون عبثية الموت بتمسكهم بالحياة وترجمتها سلوكاً يجسّد ثقافة يتمثّلها الجميع، وربطوا نبض قلوبهم على دقات ساعة الأمل أن يستطيعوا إنقاذ مايمكن إنقاذه من البشر الرازحين تحت الأنقاض، وليكونوا عوناً لمن شردتهم الفاجعة بأن يقدّموا لهم المأوى والتدفئة والطعام وكلّ ما يحتاجونه، وأبناء الشعب هؤلاء تنحني لهم الهامات لأن بوصلتهم في الحياة إنسانيتهم وحبهم لوطنهم، هؤلاء هم عطر المحبة والفرح الذي نحتاجه الآن، وكلّ ما نفعله وما نقوله وما نكتبه لا يساوي حبة عرق واحدة منهم، فسلمت هذه الروح الجميلة المعطاءة التي تمثل كنزاً من الكنوز التي تخبئها الحياة لمستقبل سورية.
أمام هذه الأيقونات في العطاء والتضحية لا يستطيع المرء أن يمسك نفسه عن البكاء، وهم يربتون على أرواح أخوتهم بحنان قابضين على وجعهم، مكفكفين دموعهم التي كانت تغافلهم، فيردعونها بتأكيدهم على انتمائهم لوطنهم وسوريتهم، إنهم كشجر السنديان والسرو العالي يضجون بالحياة ويرسمون حبهم لوطنهم أقواس قزح على أرجوحة البذل والتضحية، وفي كلّ نكبة يثبتون أنه مهما جنّت الريح لا تستطيع اقتلاعهم، لقناعتهم أن صباحاتهم أجمل مع وطن متجذّر في أرواحهم، لا يستطيعون فكاك عهدهم معه، فهذه هي سورية التي علّقت على سحابات الحزن معاطف أبنائها العابقة أرواحهم برائحة الأقحوان المندّى بدماء شهداء رحلوا، وهم على يقين أن هنالك من سيكمل الرسالة التي ارتقوا من أجلها.
أما الأطفالُ الذين وجدوا أنفسهم فجأة كريشة في مهبّ الريح يعيشون في مكان يفتقد لكل مقومات الحياة، فكانت ردة فعلهم تنمّ عن وعي لما تعرضوا له أكبر بكثير مما يُتوقع من أطفال غالبيتهم لم يتجاوزوا العاشرة من عمرهم، هؤلاء الأطفال الذين زرعوا شرايينهم مقاعد انتظار للّحظة التي يكبرون فيها ويثبتون لأهاليهم الذين فقدوهم أنهم جديرون بحمل اسمهم وإكمال مشوارهم، سلاحهم في مشوارهم الحياتي أقلامهم وحقائبهم وأحلامهم التي رغم كل شيء مازالوا يطرحون أوراقها البنفسجية لتتفتح سنبلة من حنطة الأمل، ويبنون وطنهم الذي يحلمون به ويرسمون الخطو إليه، يشتاقون إليه سليماً معافى ليجمعهم من شتاتهم ويسكب في أرواحهم عبقه النديّ فيحيي نسغها.
الأطفالُ المنكوبون المزلزلة أرواحهم والذين فاجؤونا بوعيهم، أعطوا دروساً في إصرارهم على المقاومة والبقاء، يكتمون غصّة وجعهم ويعضّون على جراحهم، أطفال إيمانهم بالحياة أقوى من كل مسبّبات الموت التي يواجهونها في حياتهم، ولنا في الأطفال الصغار الناجين من الدمار كالطفل الذي بقي تحت الركام لأيام وخرج ولمعة الفرح في عينيه، وكذلك الطفلة شغف التي تشبه زهرة تنبت في صحراء الحياة تؤكد ضحكة عينيها، أننا شعب نحبّ الحياة رغم كلّ البشاعة التي نعيشها، وأننا سنبقى نساند بعضنا حتى نتجاوز هذه المحنة ونبدأ حياة جديدة مزهرة بالأمل، فبعد هذه الكارثة سورية بحاجة للحبّ لأن الحبّ وحده يليق بها وهو الذي يوحّد الجميع ويبني سورية.