العلاقات الرمزية
رائد خليل
كان النحوي المعروف أحمد بن سيلجون يتمشّى مع صديقه على نهر دجلة، فلمح فتاة تنظر من نافذة بيت.. فقال: انظر إلى هذه الدعجاء الفيحاء السويجاء الوركاء الناهد الهرطل البنجويش السوتحيش الكاعب الراتب الريفون، تطلّ من طويقتها الهرطاقة الرطاقة.. وكأنها القمر!.
فقال صديقه: ما معنى القمر؟
من هذي المعاني وفضائها، يأخذنا الاستناد إلى كونفوشيوس العظيم الذي صرخ بأعلى حكمة: “لا يمكن للمرء أنْ يحصل على المعرفة إلا بعد أنْ يتعلم كيف يفكر”.
إذن، هو سؤال الخلق الإبداعي.. أما الدواعي النفسية المرتبطة بالحاجات، فهي التي تأخذنا إلى القول الرمزي المسربل بعواصف من المشاعر الموحية.
الرمز، هو مسلك ودلالات وخطاب غير مباشر بمعادلات غير محدودة الأبعاد، لهذا كلّ الأشكال التي نتعامل معها قابلة للصياغة والتلوين بدءاً من الألف إلى الياء.
فكلّ اللغات والرسوم كانت ومازالت تشكّل حلقات وصل بين الشعوب، وهي حالة تمثيلية في المجالات كافة.
وهنا، يؤكد بودلير: “أنَّ المعرفة الجمالية نقيض المعرفة العادية، إنها معرفة رمزية، فإن غاب الرمز، غاب الفن”.
هذا القول، يحتاج إلى تفكيك، ثم إلى إعادة بناء في فهم منظومة العلاقات الرمزية وفي أشكالها وإسقاطاتها وتأثيرها سلباً أم إيجاباً.. وهناك من يرى فيها خطراً وتقييداً للمفهوم الجمالي، ويرونه إعاقة حقيقية للتصورات الأكبر. ولكنّ الواقع الفني والأدبي يفرض معادلة أخرى تميل إلى الاختصار بوصفه قاعدة مواكبة لتصوير الواقع واختزاله، وهذه ثيمة متفردة في طرح الممكن.
وفي مفهوم الدلالة، تختلف التوصيفات، فيرى بعضهم أن الرمز بشقيه العام والخاص هو تأمل وانفعال، وهو دال ومدلول، ومن هنا، يكتسب الرمز أهميته القصوى في التجسيد وتوسيع بيكار الرؤى ضمن دوائر الصور الذهنية المتوالدة.
إذن، كل هذي الرموز تشكل علاقة سببية، وذلك بحسب فرويد، الذي رأى أنّ الرموز الموجودة في الأعمال الفنية ترتبط بمعانيها الكامنة في اللاشعور.
عرف الأدب والفن ظهورات رمزية كان لها وقع كبير بعيداً عن المسميات الواقعية، ويمكن استقراء تلك الظهورات من الخاصية التشكيلية التي تترجم الواقع وتستعيض عنه بالومضة (الفكرة) وتحوّله إلى لغة واضحة المعالم والدلالة.
وظف الأدب والفن أشكال الكون كله، وحدّد سياقاتها المعرفية، وهنا، بدأت رحلة التفنن الخلاق بتلك الرموز طبقاً للمناخين النفسي والبيئي المرتبط بالإنسان.. وهذا التوظيف جعل الأشكال الهندسية تتماهى مع الحياة والكواكب والمواسم والطقوس بكل تأويلاتها.
ومن تلك الرموز وطقوس تفاسيرها إلى تعبيرية “بول كلي” الذي قال إنّ الفنّ لا يصبح مرئيّاً إلا عندما يصدر من أعماق الكائن. وهذا القول الفني شكّل اتجاهات حداثوية إيحائية مستمدة من الطبيعة وتستند إلى قوة الدلالة ومساراتها المتوالدة وتجلياتها وانعكاسها على حركة العمل الإبداعي.
وتتشابك الرمزية والتعبيرية في خطوط ذاتية وتتلاقى في الانفعال على مساحة الطاقة الكامنة المشحونة بعواطف ومشاعر لا حدود زمنية لتأثيرها على النفس البشرية، ووضعها في سلم الارتقاء لما تفعله من اكتشافات في البنية الذهنية التي تفيض قوة والتي تقبض على جمر التجريب.
إذن، إن كلّ الأشكال والرموز جعلت الأشياء تنطق بصرياً ومرئياً في خيال وافتتان لا حدود لهما.
يستند الجوهر المنبثق من الذاتية الصرفة إلى مستويين حسيّ ومعنوي، فالتصريح يقلل أهمية التعبير والرمز، على عكس الإيحاء، الذي يعمّق المدلول ويجسّد المشاهد بأعلى بلاغة وجمال.. حتى بات الرمز في الأدب والفن مذهباً قصدياً وموقفاً مكوناً للبيئة النفسية التي يفرد فيها الفنان أو الأديب أجنحة التحري والتقصي عن المستتر.
إذن، أنساقٌ خاصة تنعش العقل وتفتح بوابات التأمل على مصاريعها، إضافة إلى خلق ثورة تساؤلات تسعى إلى الإيغال في التخيّل.