إرث الإنسانية الغربية تجلى في زلزال سورية
عناية ناصر
عندما شعرت واشنطن أنه لم يعد بمقدورها إبقاء الحظر المفروض على سورية بعد أربعة أيام على كارثة الزلزال المروع والعنيف الذي ضرب سورية، والمشاهد القاسية والمؤلمة في المناطق المنكوبة، وانتشال آلاف الجثث من تحت الأنقاض، وملايين آخرين ما زالوا يعانون من البرد والجوع والإصابا ، قامت باستصدار إعفاء جزئي من العقوبات.
ستكون الحكومة السورية، بموجب ذلك الإعفاء، قادرة على تلقي الإغاثة لمدة ستة أشهر قبل إعادة فرض الحظر مجدداً، لكن لا ينبغي لأحد أن ينخدع بهذا التغيير الظاهري من خلال ذرف دموع التماسيح على ضحايا الزلزال، خاصة وأن رد الفعل الأول لوزارة الخارجية في أعقاب الزلزال مباشرة كان تشديد سياستها، حيث رفض المتحدث باسمها نيد برايس إمكانية رفع العقوبات، بحجة أنه سيأتي بنتائج عكسية، كي لا تقوم بالتواصل مع الحكومة الشرعية في سورية.
إن الحقيقة الواضحة وضوح الشمس هي أن نظام العقوبات الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وكندا وأستراليا كان سياسة إجرامية قبل وقت طويل من وقوع الزلزال، وإن الإعفاء الجزئي المتأخر – تحت ضغط دولي – لا يغير تلك الصورة، فلطالما كانت المزاعم الغربية بالتدخل الإنساني في الشرق الأوسط الغني بالنفط كذبة، الأمر الذي تطلب هزة أرضية لإظهار ذلك بشكل جلي.
العقوبات الجماعية
تعتبر العقوبات شكلا من أشكال العقاب الجماعي الذي يستهدف نطاقا أوسع من السكان. وفي هذا الإطار، كان الغرب يعاقب السوريين على العيش في ظل حكومة انتخبوها بملء إرادتهم، ولكن الولايات المتحدة مصممة على إسقاطها مهما كلف الأمر. وكان فرض الحظر الغربي قد تم بالتوازي مع الحرب التي قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بزيادة تأجيجها، والتي تحولت بسرعة إلى حرب غربية بالوكالة عصفت بمعظم البلاد، حيث قاموا برعاية الجماعات الإرهابية المسلحة التي تدفقت من جميع أصقاع البلاد، إلا أنهم فشلوا في نهاية المطاف في تحقيق مآربهم في تغيير الحكومة في سورية.
لقد عانى ملايين السوريين بسبب الحرب، مما أدى إلى تردي الأحوال المعيشية، وإلى انهيار الاقتصاد السوري، ليس فقط بسبب العقوبات الغربية، ولكن لأن الولايات المتحدة وغيرها استولت على حقول النفط السورية، وعلى ثروات البلاد، وقد جاء الزلزال ليزيد من معاناة السوريين ومواجهة المزيد من المصائب.
سياسة وحشية بشعة
إن المنطق المفترض لسياسة الغرب التي دامت عقداً من الزمان هو محاولة تقسيم سورية، وفقاً لنموذج تنتهجه واشنطن بانتظام، لكن من الواضح أن المشروع قد فشل مثلما حدث تماماً من قبل في دول منتخبة شرعياً تعتبرها معادية لها مثل كوبا وإيران، حيث استمر تطبيق برنامج المعاناة باسم الإنسانية.
عندما ضرب الزلزال سورية في السادس من شباط الحالي، أدى إصرار واشنطن على مواصلة العقوبات إلى تحويل السياسة من مجرد غير إنسانية إلى سياسة قاتلة. وبدلاً من إجراءات الولايات المتحدة الخيرية المزعومة برفع العقوبات مؤقتاً، كان من الأجدى أن ينصب تركيزها على سبب وجودها في المقام الأول.
كان منطق موقف الغرب هو أن رفع العقوبات يتطلب الاعتراف بالحكومة الشرعية في سورية، وهذا بدوره سيكون بمثابة اعتراف بالهزيمة في معركة تغييرها. لذلك كان لحماية “الأنا” الجماعية لمسؤولي واشنطن الأسبقية على العذاب والألم الذي طال ملايين السوريين، وهذا بحد ذاته يكذب أي ادعاء بأن الولايات المتحدة وأوروبا، في معركتهما لإسقاط سورية، قد اهتما حقاً بالشعب السوري، كما أنه يقدم نقطة مقابلة كاشفة لكيفية تعاملها مع أوكرانيا. وعلى ما يبدو، لم يدخر الغرب أي ثمن في الوقوف إلى جانب الأوكرانيين “ذوي المظهر الأوروبي”، حتى لو كان ذلك يخاطر بمواجهة نووية، ولكن يتم التخلي عن السوريين ويتركون لمواجهة مصيرهم.
معركة من أجل التفوق
لا يمكن فهم الغرائز الإنسانية المفترضة للغرب إلا من خلال التعمق بها كثيراً، ويبدو أن مساعدة الأوكرانيين من خلال تسليحهم، وإمدادهم بالدبابات والطائرات، فيما يحرم السوريون من ضروريات العيش والبقاء، يعمل في كلتا السياستين على تحقيق الهدف نفسه، والذي لا علاقة له برفاهية المواطنين الأوكرانيين أو السوريين، وهذا الهدف هو التفوق الغربي، ومحاولة إضعاف روسيا.
إن معاقبة سورية ليست سياسة خارجية أخلاقية يتم تبريرها من خلال النظر إلى العالم وشعوبه من خلال عدسة واحدة فقط، وكيف يمكن خدمة المصالح المجردة للقوة الغربية والولايات المتحدة في المقام الأول. وكما هو الحال دائماً، يلعب الغرب لعبته الاستعمارية الكبرى من خلال مؤامرات القوة لترتيب قطع الشطرنج الجيوستراتيجية بأفضل ترتيب ممكن، حيث تشمل تلك المصالح الهيمنة العسكرية العالمية والسيطرة على الموارد المالية الرئيسية مثل النفط.
جريمة كبرى
بينما تكافح سورية للتعامل مع الزلزال، لم تكن الغريزة الأولى للولايات المتحدة وحلفائها هي في كيفية تخفيف معاناة شعبها، بل الاصطياد في الماء العكر، وذلك من خلال محاولة إلقاء اللوم على سورية بعرقلة وصول المساعدات إلى بعض مناطق الشمال التي لا تزال تحت سيطرة الجماعات الإرهابية. إلا أن الحكومة السورية وافقت على إيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق غير الخاضعة لسيطرتها، شمال غرب البلاد. لقد تجلى إرث الإنسانية الغربية في سورية مرة أخرى من خلال كارثة الزلزال، وسورية وشعبها الذي أنهكته سنوات من الحرب بالوكالة ونظام العقوبات الغربي، سيعانون مرة أخرى – هذه المرة من الزلزال – وليست حكومات واشنطن أو عواصم أوروبا الذين يدعون أنهم يريدون إنقاذهم.