“ميونخ”.. من الأمن إلى التحشيد.. ومن التوافق إلى التصعيد
تقرير إخباري:
كان لافتاً انعقاد مؤتمر ميونخ في نسخته الأخيرة بغياب روسيا وإيران كقطبين فاعلين على الساحة الدولية، بشكلٍ يشير إلى أن أمريكا وأدواتها في الاتحاد الأوروبي يجنحون نحو مزيد من العزلة وإحلال الانقسام بين الغرب والشرق، وتحييد كل من يعدّونه منافساً أو عدواً لهم دون وجه.
والغريب أن الكلمة الافتتاحية في المؤتمر كانت لرئيس نظام كييف، فلاديمير زيلينسكي، في ظل غياب الطرف الآخر الذي من المفترض أن يتم التفاوض معه لإنهاء حالة الحرب والصراع، وفقاً للغايات التي تم إنشاء المؤتمر من أجلها، بل علاوة على ذلك تمّت دعوة أطراف ممّا تسمّى “المعارضة الإيرانية” واعتبارها طرفاً سياسياً يمكن أن يمثل إرادة بلاده، إضافةً إلى تكثيف واضح للحضور الأمريكي من خلال حضور وزيري الدفاع والخارجية ونائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس، و60 عضواً من الكونغرس.
وعلى المقلب الآخر، فإن التغييب لموسكو يشير إلى مدى خطورة وتدهور العلاقات بين الغرب والشرق، ومدى تحيّز المؤتمر لـ”ناتو”، فبدلاً من أن يجلس أطراف الصراع أو الخلاف مع بعضهم للتحاور والاتفاق، يكتفي المؤتمر بتجميع صفوف طرفٍ على حساب آخر، وبالتالي التجييش ضدّ الطرف الآخر الذي من المفروض أن يحضر للتفاهم والتفاوض والخروج من المؤتمر بمخرجات عملية قادرة على إرساء حالة السلام العالمي بمباركة جميع الأطراف، لكن كيف سيحدث ذلك إن كانت أنظمة الاتحاد الأوروبي الحاضرة للمؤتمر تنتهج مبدأ عدم التفاوض مع روسيا؟، ناهيك عن إرسالها الذخائر والدبابات لقوات كييف بهدف إطالة وتأجيج الصراع ضدّ روسيا.
أشار عدد من الخبراء إلى المدى السيّئ الذي وصل إليه الوضع العالمي، ومدى بشاعة التسييس الغربي لجميع المحافل الدولية، وتجيير قراراتها لمصلحة ما يصبّ في خانة الهيمنة الأمريكية، فمنذ نصف قرن عُقد المؤتمر بحضور جميع الأطراف الدولية الفاعلة، وخاصةً تلك الضامنة للأمن والسلم الدوليين، رغم أن العالم كان مقسوماً إلى معسكري “وارسو” و”ناتو”، في ظل اندلاع الحرب الفيتنامية، ووجود خلافات في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، في حين يضمّ “ميونخ” اليوم تقريباً حلفاً واحداً “باستثناء الصين”، وكأنه يعكس رغبة الغرب في محاولاته لإنكار حالة كسر القطبية التي تقودها روسيا مع الصين وإيران وفنزويلا وغيرها من الدول، بهدفٍ وحيد هو استمرار الغطرسة الأمريكية ونهبها لخيرات العالم من خلال وقوفها بوجه روسيا، والتمدّد في شرق أوروبا وحشد قوات “الأطلسي” في دول البلطيق في مساعٍ حثيثة لـ”تطويق روسيا”، حيث بدأت واشنطن خطواتها التصعيدية تلك قبل إشعالها فتيل الحرب الأوكرانية ومنذ عام 2019، ويظهر الآن بوضوح أن الهدف الأكبر من هذه الحرب هو الحدّ من نموّ قوة روسيا كقطب ساعٍ لإحلال التوازن والعدل في العلاقات الدولية التي تحاول واشنطن جاهدة بناءها على شكلٍ استغلالي غير متوازنٍ لمصلحتها، كما تحاول محاربة ما تقوم به الأقطاب الجديدة من فرض للتعامل بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار الأمريكي، في وقتٍ تسعى فيه لإعدام قيمة النقد الوطني لكثير من الدول لإحلال عملتها مكانها وضمان تبعية حكوماتها لها.
من ناحية أخرى، عمد المؤتمر إلى تغييب وسائل الإعلام الروسية، وهو ما يكسر مبادئ حرية الرأي، والرأي الآخر، التي طالما تغنى بها الغرب، بهدف تعويم طرفٍ على حساب آخر، وطرح أيديولوجياته بسهولة على الرأي العام الغربي والعالمي.
في النهاية “ميونخ” لن يعزّز الأمن ولن يمنع الإرهاب، كما أنه لن يحلّ أية أزمات عالقة، بل سيكرّس ضعف وإلغاء دور مؤسسات المجتمع الدولي التي حوّلها الغرب إلى سلاح لتمرير مشاريعه وتغليف سياساته بغطاء الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومعاقبة خصومه.
لكن كل ما يجري من سلبياتٍ، وما تعكسه الصورة من لونٍ قاتم، بما فيه سياسة تعميم العقوبات غير الإنسانية بحق الشعوب، لن يدوم وسيعزّز قوة أقطاب العالم الجديد وتكاتفها مع بعضها كدولٍ معاقبة تم السعي إلى عزلها، كما سيشكّل ما يحدث هاجساً لبعض الدول ورجال السياسة والأعمال القلقين على مصير أموالهم المودعة في بنوك أمريكا، التي من الممكن أن تجمّد أو تُصادر كما حدث لأموال رجال الأعمال الروس، لكي تسعى تلك الدول لإيجاد بديل يمنحها العدل والحرية دون أية مخاوف أو تسييس مقيت.