النظام الدولي عند مفترق حرج
عناية ناصر
كان الصراع بين روسيا وأوكرانيا أولوية رئيسية خلال مؤتمر ميونخ للأمن الذي جرى مؤخراً، ولكن بدلاً من القيام بأي شيء مفيد لحلّ النزاع الروسي الأوكراني بالطرق السلمية، أدلى العديد من قادة الدول الغربية بتصريحات استفزازية بشأن روسيا، مما جعل المراقبين يعتقدون أن المنتدى لم يتمّ تنظيمه سعياً لتحقيق الأمن أو السلام.
يمرّ المجتمع الدولي الآن بنقطة تحول تاريخية، حيث تتشابك التحديات العالمية وقضايا النقاط الساخنة الإقليمية، فوفقاً لمؤشر ميونيخ للأمن 2023 الذي تمّ إصداره قبل المؤتمر، أصبح العالم مكاناً أكثر خطورة وزادت تصورات المواطنين حول العالم للخطر بشكل دراماتيكي. ويستمر هذا الاتجاه في أن النظام الدولي الليبرالي يواجه صعوبات غير مسبوقة إلى حدّ ما، فالنظام الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة آخذ في التراجع.
أولاً: لا يمكن للنظام الدولي الليبرالي توفير قواعد مقنعة للمجتمع الدولي، حيث يستند النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب إلى القواعد والأفكار الغربية، لكن الانعزالية المتجسّدة في “أمريكا أولاً” والحمائية يكشفان عدم حيادية مثل هذا “النظام القائم على القواعد”، فإنهم يخدمون في النهاية نظام الهيمنة الأمريكية والهيمنة الغربية.
ثانياً: أدى التراجع النسبي لمكانة الولايات المتحدة المهيمنة إلى تراجع سيطرتها على نظامها المهيمن، ولذلك تستخدم الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي ومجموعة السبع وغيرها من المنظمات الدولية للانخراط في سياسات التكتل والمعسكرات. ومع ذلك، بعد اندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا، لمس المزيد من البلدان ممارسة الولايات المتحدة لسياسة البلطجة المتمثلة في تشكيل دوائر صغيرة وإجبار الآخرين على الانحياز.
ثالثاً: أدخلت الولايات المتحدة منطق الألعاب الصفرية في العلاقات الاقتصادية العالمية، فقد يؤدي التنافس على مناطق النفوذ التي تقودها الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى إلى توترات وصراعات، مما يؤدي إلى إغلاق الحدود ونهاية العولمة وتعطيل المسار المربح للجانبين للتعدديّة، الأمر الذي سيؤدي إلى اضطراب وانحدار في الحوكمة العالمية. لذلك، فإن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة غير قادر على حلّ المشكلات الأمنية، وهو على مفترق طرق حرج أو حتى يقترب من نهايته.
في مواجهة استياء المجتمع الدولي من النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، تتصوّر الدول وتعيد بناء نظام عالمي جديد مع تزايد أهمية وجهات نظر دول الجنوب العالمي، ففي عملية تعدّد الأقطاب في العالم، تُظهر البلدان في الجنوب العالمي رغبة متزايدة في الاستقلال الاستراتيجي والاستباقية، وهي غير مستعدة للانحياز إلى جانب في المنافسة بين القوى الكبرى والصراعات الجيوسياسية.
أما فيما يتعلق بقضية الصراع بين روسيا وأوكرانيا، فقد أصرّت دول الجنوب بشكل عام على تعزيز الحوار والمفاوضات، إنهم يسعون إلى تعظيم مصالحهم الخاصة وسط المنافسة بين القوى الكبرى، وزيادة استقلاليتهم إلى أقصى حدّ ممكن، ورفض تقسيم العالم إلى مناطق نفوذ إقليمية.
عندما زار الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الولايات المتحدة، في 9 شباط الجاري، اقترح على الرئيس الأمريكي جو بايدن إنشاء “نادٍ للسلام” يضمّ الصين والهند والبرازيل ودولاً محايدة أخرى للمساعدة في حلّ الصراع الروسي الأوكراني سلمياً من خلال المفاوضات.
تجدرُ الإشارة إلى أن الهند ستتولى الرئاسة الدورية لمجموعة العشرين في عام 2023، وتسعى جاهدة لترسيخ مكانتها “كمتحدث رسمي باسم البلدان النامية”، وتعزيز إصلاح النظام الدولي. كما تأمل جنوب إفريقيا في تعزيز التعاون بين بلدان الجنوب، وإصلاح النظام الدولي، وبناء عالم أكثر عدالة وسلاماً ومساواة.
يمكن القول بشكل عام، أصبحت دول الجنوب العالمي قوة مهمّة في الشؤون الدولية والإقليمية، وأصبح موقعها بارزاً بشكل متزايد في إصلاح النظام الدولي. وبصفتها دولة اقتصادية، اتبعت الصين نهجاً تجلّى في:
أولاً: تعارض الصين الهيمنة وسياسة القوة وتشجّع على بناء نوع جديد من العلاقات الدولية، حيث تجلّى ذلك من خلال استجابة الصين للوضع الدولي المتغيّر، وتشجيعها على بناء هيكل أمني متوازن وفعّال ومستدام، من أجل معالجة عجز السلام والاستجابة للتحديات الأمنية الدولية.
ثانياً: التزمت الصين بسياسة دبلوماسية مستقلة وسلمية، وأصرّت على مفهوم أمني مشترك وشامل وتعاوني ومستدام، وستواصل دائماً طريق التنمية السلمية، حيث ينظر إلى موقف الصين المتمثل في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بشكل إيجابي من قبل النخب والناس العاديين في بلدان الجنوب العالمي.
ثالثاً: يحتاج النظام الدولي المستقبلي إلى مفهوم متعدّد الأطراف ومسار لتوفير مجموعة من معايير الحكم والترتيبات المؤسسية لعالم شديد الترابط، فالأمن هو منفعة عامة عالمية تعتمد عليها بشدة جميع دول العالم. وفي هذا السياق تشارك الصين بنشاط في صياغة قواعد الأمن الدولي، وتقوي التعاون الأمني الدولي، كما تشارك بنشاط في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وتلعب دوراً بناءً في الحفاظ على السلام العالمي والاستقرار الإقليمي.