مقام الإنسانية
غالية خوجة
ليس جميع الناس في مقام الإنسانية، لأن هذا المقام هو جوهر الوجود والثقافة والمدنية والحضارة، وهي بأعلى وأهم وأجمل مفاهيمها تشعّ بالقيم وتجسيداتها الميدانية الإيجابية التي لا تبطل على مرّ الأزمان وتظلّ مضيئة في كلّ مكان.
وضمن هذا الفضاء تظهر جِبلّة الإنسان ومدى إحساسه بأخيه الإنسان في الفرح والأحزان، لأن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، والمجتمع أسرة كبيرة تتألم وتفرح مع أي فرد، كما أن أي فرد يتألم ويفرح معها، وهذا ما يدركه، منذ آلاف السنين، السوريون الذين بنوا وعمّروا الأرض بالعطاء والمحبة والأمان والسلام، ورغم الحروب والزلازل تمتّع المجتمع السوري بهذه الميزة، وتمتّع بمساندته الإنسانية للجميع، ففتح الوطن أبوابه وبيوت أهاليه لكلّ مجتمع عانى من ويلات الإنسان والزمان، واكتشف أن اللغة العربية المقدّسة وهويتها ستظلّ تجمعنا وهي تردّد ما قاله شمس الدين التبريزي لجلال الدين الرومي عندما سأله: ماذا عن البشر؟ فأجابه: “هم صنفان، من أراد منهم هجرك وجد من ثقب الباب مخرجاً، ومن أراد ودك ثقب في الصخرة مدخلاً”، وهذا حالنا مع المجتمع الدولي الذي من المفترض أن يكون في مقام الإنسانية، ولاسيما بعد آلاف السنين لوجود هذا الإنسان على هذه الأرض، وأن يبصر هذا المجتمع الدولي المدّعي لحقوق الإنسان كيف الحصار والعقوبات تميت الإنسان السوري، طفلاً وامرأة وعجوزاً، وكيف إضافة إلى ذلك تتعرّض سورية إلى زلزال وقصْف معادٍ في الآن ذاته، وكل ذلك يجعلنا نستنتج بأن مقام الإنسانية أصبح رفيعاً لدرجة أنه انقطع في المجتمع الدولي الأصمّ الأعمى الأبكم، إلاّ من تجري في دمائه الإنسانية بشهامتها، وهذا ما سارعت إليه الدول العربية الشقيقة والدول الصديقة والدول التي ما زالت تدور في فلك الإنسانية.
أمّا داخل وطننا، ولأجل الارتقاء بهذا المقام، فلنا أن نلتفت إلى حالنا معاً داخل هذا المجتمع المتجذّر بالنخوة والتضامن، ولا بد من اقتراحات وتطبيقات وإجراءات متسارعة للحالة الطارئة التي نمرّ بها، وأن نبصر عدة محاور مهمّة، ومنها محاسبة المقصّرين والفاسدين وتجار الحرب والأزمات، ومحاسبة الغشاشين والمرتشين والمساندين الذين تركوا الكثير من الأبنية تنهض بلا مقومات مقاومة ولا معايير متناسبة مع معايير السلامة أثناء الحياة والظروف والكوارث، إضافة لمغضّي الطرْف عن الأبنية المخالفة، مهما كان منصبهم، لأنها مسؤولية مضاعفة وتحتاج لمحاسبة مضاعفة، ولاسيما أن حلب المنكوبة انتصرت على الإرهاب منذ سنوات، ولم نجد المسؤولين عن السلامة العمرانية العامة يفحصون المباني السكنية والمهجورة والآيلة للسقوط لاتخاذ الإجراءات الضرورية العاجلة المناسبة حيال حالاتها، وهنا، نتساءل: من المسؤول؟ ولماذا؟ ومتى؟ وإلى متى؟.
أيضاً، لمقام الإنسانية معايير أهمها القيام بالواجب، وعدم التهاون والتقصير، والالتزام، والاعتراف بالخطأ، واحتمال تبعاته، ومعالجته، والسعي لمنهجية التخطيط الآنيّ والمستقبلي، واختيار الأنسب من الاقتراحات الأساسية والاحتمالية والاحتياطية، وتفعيلها بالسرعة القصوى من أجل الذين أصيبوا بأضرار نفسية ومادية لا توصف، عدا عن الإصابات والضحايا، وفقدان المنكوبين للسكن وهو مطلب وحقّ أساسي لكل إنسان.
ولأننا نثق بسوريتنا، فإننا نتفاءل بأن المعالجة وإجراءاتها وآلياتها ستتسارع رغم كلّ الظروف المركّبة والمتداخلة، وستكون الأولوية لتأمين السكن لا الإيواء كمرحلة إسعافية طارئة، إضافة إلى تأمين المساعدة المالية للأهالي الذين نحن منهم والمطلوب منهم تدعيم مبانيهم وبيوتهم، خصوصاً، وأن جهود الغالبية تساعدها – وبشق الأنفس – على تأمين قوت يومها فقط.