الرئيس الأسد في مسقط.. العروبة تستعيد النبض
بسام هاشم
ما يتكشف اليوم هو أن عملاقاً يستيقظ ومارداً ينهض، وإن كان البعض ما زال يفضّل التريث بانتظار استكمال الرؤية واستقرار المشهد، فإننا نحيل إلى الإيقاع السريع الذي يحرّك المنطقة خلال الفترة الراهنة.. حدود تُفتح، وقيودٌ تتحطّم، وحصارٌ يتآكل من الداخل بفعل ميكانيزماته الذاتية وعبثيته وساديّته التي تجاوزت حدود الوصف، وبفعل إمعانه في التذلل والاسترضاء للأوامر والمتطلبات الإسرائيلية.
ولكن التضامن العربي، الشعبي والرسمي، مع سورية ما بعد الزلزال لم يكن مفاجئاً البتة، ولم يكن مقطوعاً عن السياق، فقد كان مختزناً في بطن اثني عشر عاماً من الإرهاب والترهيب والتدمير المنهجي والمنظم، وكان صرخة غضب، وهبّة احتجاج مجلجلة ضد السياسات الإجرامية الغربية، والأمريكية خاصة، في المنطقة؛ وكان الصلف الأمريكي بالامتناع، للوهلة الأولى، عن تقديم المساعدات، بل محاولة حظر أي بادرة إغاثة، ومن أي طرف، إلى سورية، بمنزلة القشة التي فجرت الزلزال الآخر في وجه سياسة أمريكية متعجرفة وغير أخلاقية ولا طاقة بعد الآن على تحمّلها، أو السكوت عنها.. وكان تسيير قوافل الإغاثة عبر المعابر البرية وطائرات المساعدات والجسور الجوية وفرق الإغاثة، تحدّياً علنياً لهذا الصلف، وإيذاناً ببدء حقبة جديدة مختلفة تماماً.. الشارع العربي الذي زيّفته واشنطن من خلال “ثورات” تحت الطلب، ومعارضاتٍ مأجورة، قبل أكثر من عقد من الزمن، يعود اليوم سليماً معافى، قوياً، ناهضاً، مشهراً قبضته في وجه السياسات الأمريكية والغربية: كفى!.
كان الأمر، إلى حدّ كبير، أشبه بقيامة صغيرة فوق الأرض السورية، يوم دينونة استيقظ البشر فيه على حقائق الأبد.. فجأة تفجّرت المشاعر القومية كما لو أن سدّاً هائلاً تحرّر من قيد خرساناته الكتيمة؛ ومن موريتانيا إلى الأردن إلى الإمارات، ومن اليمن إلى العراق، مروراً بكل العواصم العربية ومدن الاغتراب، كان عالم ما بعد الهيمنة الأمريكية، وما بعد المركزية الغربية، يتصدّع أمام واحدة من معطيات العالم الجديد، الناهض بقوة: وداعاً للوصاية الأمريكية! لقد وصل الولوغ الإجرامي الغربي في الدم السوري إلى درجة غير مسبوقة، ولكن سورية الجريحة لا تُترك، ولا تُقاطع، ولا يمكن تسليمها للضواري، ولا يمكن تصوّر أي عروبة، أو أي وجود قومي دونها.. لقد تشظّى العالم العربي جيوسياسياً، في مرحلة تغييبها، وأطراف عديدة تكالبت على المنطقة، وحتى الدول العربية نفسها تشتتت بين محاور متصارعة، وتجاذباتٍ إقليمية. لقد تم تفريغ وتجويف المنطقة العربية من الداخل على خلفية الانشغال السوري، وكان واضحاً أن الطارئين على العروبة والإسلام، الذين عاثوا بسورية إفساداً وإجراماً، حرموا الأمة من نبضها.
وها هو النبض يسري من جديد، مبشّراً بانبعاث جديد، وها هو قلب العروبة يخفق بقوة مع تبدّل الشهور والفصول وإحداثيات القوى الإقليمية والعالمية، فبعد اثني عشر عاماً من الإرهاب والتدمير والعزل والحصار، يعود الرئيس الأسد إلى حيث يليق به دائماً، ضيفاً كريماً في العواصم العربية، ورجل دولة من الطراز الأول، أعاد الاعتبار للوطنية الحقة، ودافع حتى النهاية عن بلده لأنه لا أحد مثله يعرف معنى الصمود والمواجهة، وبدفاعه الصلب والعنيد أضاف صفحاتٍ استثنائية إلى تاريخ حركة التحرّر في العالم. إن ما حصل خلال السنوات الماضية لا مثيل له في التاريخ المعاصر، ولم يستطع أي نظام سياسي، وأيّ شعب، أن يسجّل كل هذا الصمود والمقاومة في وجه أعتى تحالف إمبريالي قرّر محو سورية، وشرع بإزالتها عن الخريطة، من خلال حرب هجينة وشاملة أيديولوجية وعسكرية واقتصادية، مستخدماً معارضة ملوّثة بمنتهى الاستزلام والتبعية.. لم تهبط أيّ معارضة في العالم إلى الدرك الذي انحدرت إليه ما تسمّى “معارضة” سورية خارجية، أو مرتزقة داخلية مسلّحة.
يتبدّد بالتدريج الفراغ المخيف الذي أحدثه غياب سورية، بل محاولة تغييبها عمداً، لعلّ المسرح يبقى مشرعاً للقوى والأنظمة “القزمة ذاتها”، التي عملت على المدّ بمرحلة التجوّف القومي، هذه، إلى ما لا نهاية، انطلاقاً ممّا يتهيّأ لها بأن السير في ركب المشاريع الأمريكية، والاحتماء بالمظلة الأطلسية، بوسعه أن يقلب الحقائق التاريخية رأساً على عقب، ويعكس قوانين الأمم.. لقد راهنت على الثقب الأسود الذي يفتح شدقيه عن آخرهما لكي يلتهم أمة العرب، والبلدان العربية الكبرى القائدة تاريخياً، بل راهنت على تفكيكها من الداخل، واقتيادها إلى المذبحة. ولكننا نتجاوز اليوم هذا القطوع الكارثي، بفعل الإيمان الحق، والقلب الثابت، والعروبة النقية، وها هو الرئيس الأسد في عُمان ضيفاً عزيزاً على أخيه صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق، سلطان عُمان، وها هي سورية مرة أخرى في قلب المعادلة الصعبة لاستعادة اللحمة وترميم العمل العربي المشترك وتصحيح التاريخ في المنطقة.