قارئ ما بعد الكارثة: أين الإنسانية في هذا العالم؟
حلب- غالية خوجة
استمر ويستمر الناس بالتعاضد بحلب وكانوا يداً بيد في مرحلة الإنقاذ والإغاثة والإيواء، واستمر البعض في التفريج عن النفس في المساحات المفتوحة والخضراء، لعل التوازن يعود للأرواح المتألمة من كل شيء والمتفائلة بأحداث ستأتي جميلة.
ترتجّ الصور والمشاهد والشوارع والمكان والزمان مع آثار الكارثة وأحلام الضحايا التي تركوها معلقة بين أنقاض المباني وقطع الأثاث والألعاب وركام الحجارة وشذرات الحديد والغبار الحزين ونظرات السماء الدامعة بفصلها البارد جداً، إلاّ أن كل ذلك وأكثر منه لم يمنع المجتمع بكافة أطيافه وأفراده وجهاته الحكومية والخاصة والخيرية من المبادرات الإيجابية على مرّ النهارات والليالي، لأن الماكث في المشهد يلتفت إلى صوت سيارات الدفاع المدني والهلال الأحمر والصليب الأحمر والشرطة، وإلى اندفاع المتطوعين من المحافظات السورية ومن الدول العربية والأجنبية، ومن حلب بكل تأكيد ومنهم على سبيل المثال الجنود البواسل، والزملاء الصحافيون، والأمانة السورية للتنمية واتحاد الطلبة والكوادر الحزبية والشبيبية وفرقها ومشروع جرحى الوطن وفريق مهارات الحياة والفرق الجامعية بطلابها ومدرّسيها، ومديرية التربية وغرفة التجارة والصناعة والنقابات والجمعيات المختلفة، هذا عدا عن المبادرات الفردية لجميع الفئات ومن جميع الناس ولو بكلمة طيبة ودعوى صافية بالأمان والسلام.
وضمن مشاهد التفاؤل نلمح شريطاً من الذكريات الحزينة على ملامح الأطفال وهم يلهون بالكرة أو الألعاب المتواجدة في الحدائق أو في الركض هنا وهناك في نراكز الإيواء، أو في العودة إلى العمل من أجل تأمين قوت اليوم.
تتداخل المشاهد باهتزاز زلزالي ترتجف فيه ومعه صور الضحايا الشهداء وحكاياتهم مع صور الجرحى وآهاتهم مع ذهول الأطفال وحالاتهم لا سيما أولئك الذين خرجوا إلى الحياة من بين الأنقاض.
الهول ذهب ولم تذهب آثاره، لكن الجميع يحاول الخروج من تلك الهزة القوية التي أصبحت “فوبيا” لدى الغالبية، وتعود إليهم بهيئة متلازمة الزلزال، ريثما تجمع النفوس شظاياها الداخلية، موقنة بطمأنينة في القلوب التي يحضنها الرماد والغبار كما تحضنها زقزقة العصافير في هذا الكون.
ولا شاغل للناس سوى الحديث عن تلك اللحظة وكيف خرجوا إلى الشوارع ورأوا الانهيارات والتصدعات والصراخ متسائلين: لماذا لم يتم الكشف عن المباني بعد الحرب والانتصار؟ وهل سيحاسب المقصرون والفاسدون؟ ومتى وأين سيستقر الذين انهدمت بيوتهم؟ وكيف ستعيد الغالبية تدعيم البيوت المعرضة للخطر؟ ومن بوسعه احتمال التكلفة المادية، خصوصاً، وأن الغالبية تؤمّن قوت يومها بأعجوبة؟
الناس المتسائلة المتبرزخة بين الارتجفات الارتدادية والضياع ما زالت تبحث عن الطمأنينة في الشوارع، حول القلعة، في الحدائق، وحتى في المقابر، رغم أن القلة تأقلمت بعد أيام مع الواقع مضطرة لتستمر في هذه الحياة.
وبين خطوة وخطوة، ونظرة ونظرة، ترى ملامح الناس دامعة مثل أرواحهم، ومنهم من طاف به العمر ليستند على عكاز طبي، ومنهم من يحكي للجموع القريبة منه عن همومه، ومنهم من يجلس داعياً وتاركاً للصبر الجميل أن يعرّش حوله لتكون كالأزاهير المشعة.
وليس بعيداً عن حياتنا الدرامية السوريالية في حلب، ألمح رجلاً تجاوز الستين من عمره يجلس في الحديقة العامة بحلب، يضع بعض مستلزماته قربه، ويمسك بكتابٍ ما يقرأ فيه، فاقتربت منه وسألته عن كيفية استطاعته القراءة في مثل هذا الظرف الاستثنائي، فأجابني: اسمي ماجد لبني مدرّس فيزياء متقاعد، وحالياً أعمل في مجال الديكورات والدهانات، وأشغل وقتي بالقراءة بعيداً عن الزلزال والحياة والمصائب والغلاء والجشعين.
وتابع بابتسامة متألمة: أتساءل: كيف سنعيش نحن دون مساعدات؟ أين الإنسانية في هذا العالم؟ أوليست الإنسانية مطلب كل إنسان ومدنية وحضارة ليستطيع الاستمرار في الحياة؟
واسترسل: نأمل أن يطمئن الناس، وأن يكونوا محصنين ضد الإشاعات الكثيرة، لأن هناك ما هو أهم من وسائل التواصل التي تبثّ الإشاعات، وأسأل من يصدق هذه الأكاذيب: لماذا تستمعون للإشاعات؟ ولا تلجؤون للعلم؟ أو ليس الأهم هو تدبير حالتكم النفسية وأمور الحياة اليومية إضافة إلى الاعتماد على وسائل الإعلام الموثوقة؟
وأضاف: الله يفرّج ويحل مشاكلنا وترجع سورية أقوى من ذي قبل.
لثم نظر إلى أعماقه ليردف معلّقاً على كلامه: ولتكون سورية أقوى لا بد من تغييرات جذرية في حياتنا والقوانين لنحافظ على وطننا وأهله، وعلينا المشاركة جميعاً في بناء الوطن والقضاء على الفساد والمفسدين، ولا بد من فك الحصار عن سورية ورفع العقوبات عن سورية وهو مطلب كل إنسان على هذه الأرض وليس فقط مطلب الإنسان السوري، ومن جهتي متفائل بأن سورية ستكون أجمل والسلام للجميع.