مقاربة بين الشعر العربي والأمريكي اللاتيني في كتاب “الشعر والبحث عن القمة”
ملده شويكاني
“بعض الأشجار شفافة وتتقن الكلام
بعدة لغات، وأخرى حسابية
تحاور الهواء في غلطة النجوم
تبدو أخرى كالأحصنة فتصهل”
مقطع من قصيدة “القداس الكبير” للشاعر غونثالوروخاس من شعراء أمريكا اللاتينية، وقد اختاره الباحث إياد مرشد ليكون أحد أعمدته الثلاثة في كتابه النقدي “الشعر والبحث عن القمة” الصادر عن دار سين للثقافة والنشر والإعلام، واتسم بجمالية اللوحة الحروفية التي شغلت حيزاً من غلاف الكتاب بتناغم بين اللونين الأسود والأزرق.
في هذا الكتاب نجد مقاربة من الأدب المقارن، إذ عمل مرشد على البحث بعمق في التقارب بين التجربة الأدبية الإنسانية للأدب الأمريكي اللاتيني وبين الأدب العربي من خلال التجربة الشعرية لثلاثة شعراء، وإن اتسمت تجربة كلّ واحد منهم بخصائص وسمات خاصة، فبدأ من غونثالوروخاس من تشيلي، ثم اختار من شعراء المقاومة حنا جاسر شاعر التغريبة الفلسطينية المغترب، كما أفاض بخصوصية التجربة الشعرية للشاعر السوري صقر عليشي.
قلة الترجمة وشروحات
ولم يكن الكتاب لبيان المسائل المشتركة فقط، إذ أشار فيه إلى مسألة مهمّة جداً وهي قلّة الترجمة بين الأدبين العربي والأمريكي اللاتيني، حيث غابت أسماء كبيرة أغنت الأدب في أمريكا الجنوبية، وفي الوقت ذاته لم يتمّ الاطلاع على التجارب الإبداعية الحديثة في الأدب العربي في أمريكا اللاتينية، ويرى الكاتب أن حركة الترجمة بقيت للجهود الذاتية التي قام بها أبناء المهاجرين اللبنانيين والسوريين في بلاد أمريكا اللاتينية. كما أوضح شروحات لبعض أنواع الشعر مثل الشعر الإيروتيكي، والفرق بينه وبين الشعر العاطفي (شعر الحب)، وعرّف مصطلح السخرية وبيّن استخدامها في القديم والحديث، وألحق الكتاب بمختارات شعرية للشعراء الثلاثة.
خروج عن السريالية
وقد يتساءل القارئ لماذا اختار الكاتب هذا العنوان “الشعر والبحث عن القمة”، فيعرف الجواب في البحث الذي خصّصه للشاعر غونثالوروخاس، حينما حلّق بعيداً عن تيار السريالية، فاتهمه أعضاء مجموعة ماندراغورا بأنه نصاب شعر، فكان جواب الشاعر فيسنت هويدوبرو “دعوه.. إن غونثاليس مجنون بحاجة إلى قمة”، ثم أطلق العنان لتجربته بعيداً عن كلّ التيارات معبّراً عن مشاعره وأفكاره وموقفه من الحياة والموت.
ومن خلال الهامش الذي اتخذ طابع التوثيق لسيرته الذاتية سرد الكاتب ملخصاً عن حياته، إذ وُلد في عام 1917 في مدينة بويرتو ليبو، والده يعمل بالمنجم توفي حينما كان غونثالوروخاس في الخامسة من عمره، فعاش مع والدته في حي كونسبسيون وحصل على منحة فالتحق بمدرسة داخلية مشحونة بالعداء، وفي عام 1938 انتمى إلى مجموعة “ماندراغورا” التي ضمّت نخبة من الأدباء واقترب من خلالها من المدرسة السريالية، وخرج عنها وعاش حياة الترحال متنقلاً من فرنسا إلى الصين وكوبا، وعمل بالسلك الدبلوماسي، وبسبب الاضطرابات السياسية نفي إلى ألمانيا الشرقية ومن ثم فنزويلا، ودرّس في جامعات أوروبية وأمريكية، ثم عاد إلى تشيلي وبقي فيها حتى وفاته في 2011، ويعدّ من أحد كبار الكتّاب في تشيلي مثل نيرودا وإيزابيل الليندي وغابرييلا ميسترال وغيرهم، وقد تأثر بالشعراء التشيليين والعالميين. أصدر عشرين مجموعة شعرية، حاز على جوائز عدة، منها جائزة الملكة صوفيا للشعر الأمريكي اللاتيني.
أسئلة عن الحبّ..؟
أما عن خصائص شعره، فتوقف الكاتب إياد مرشد عند مجموعته الشعرية (المستنير) التي صدرت عام 1986 وترجمها معهد ثيربانتيس في مراكش- المغرب، فضمّت قصائد ارتبطت بحياته مثل قصيدته لزوجته هيلدا (صوائت لأجل هيلدا) و(الحب ربو). ومن خلال صفحاته استلهم مفردات التراث الإنساني وأجاب عن أسئلة تشغل الإنسانية، وتتضح آثار السريالية إلى حدّ كبير، كما أشار الكاتب إلى تأثره بالشعر الإيروتيكي الذي يركز على المظاهر الفيزيائية للحب والشغف وتلمّس الجمال، وبقي سؤال الحب حاضراً في قصيدة “ماذا نحب حينما نحب؟؟”
“وما هو الحب؟
ومن هو؟
أهي المرأة بأغوارها وأزهارها وبراكينها؟
أم تلك الشمس المتوهجة ودمائي الفوارة؟”
كلمة حق
وتابع الكاتب تحليل قصائده، فكان مؤمناً بالنضال ضد قوى الظلم والإمبريالية، وقصيدته “الثامن من أكتوبر” التي وثّق بها آخر معركة لغيفارا مثال على ذلك، كما ربط بين كلمة الحق والشاعر الحقيقي في قصيدته “الشعراء الحقيقيون”، ورأى أن استمرارية وجوده ترتبط بكلمة الحق:
“لا صفقة لديّ الآن
سوى أن أكون هنا لأقول الحق
وسط الشارع وفي كلّ الاتجاهات”
وذكر الولادة في قصيدة “بالرغم منكم سأولد” وقصد من الولادة حالة كونية، أو حالة شعورية كولادة فكرة، أو جمالية كتفتح زهرة الأوركيد.
دلالة الإشارات
وتوقف الكاتب أيضاً عند الإشارات اللافتة في قصائده، وهي الإشارات عن الأنف والأذن والعين، وكأنها وحدة متكاملة في قصائد عدة، منها “متلعثم” ونوّه بأن دلالة الإشارة إلى هذه الحواس تؤكد رغبة الشاعر العميقة في التواصل المباشر مع ما يحبّ، نتيجة الغربة والنفي، ما جعله تواقاً للقاءات أشخاص عاشوا داخله، أو للتعبير عن دوافع شعورية كامنة في التعبير عن إعجابه بإنسان رغب أن يكون قريباً منه، وقد يكون رغبة بتوثيق لحظة ما أو حالة إنسانية، ليصل إلى أن النص الشعري لديه كان مفتوحاً على أمداء واسعة.
من فلسطين إلى الأرجنتين
وخصّ الكاتب إياد مرشد شاعر التغريبة الفلسطينية المغترب في الأرجنتين حنا جاسر بفصل سرد فيه محطات حياته ومواقفه لانتصار القضية الفلسطينية، إذ ولد في قرية الطيبة الفلسطينية عام 1925 وعلى إثر النكبة هاجر إلى الأرجنتين وكتب الشعر بالإسبانية والعربية، من مجموعاته الشعرية “أمة وجراح” صدرت عام 1980، فتماهى مع شعبه رغم غربته، فكان من أصحاب الشعر المسؤول والكلمة الثائرة، ولم يجد أملاً إلا في موقف سورية، فقال في قصيدة كتبها عام 1981:
“يا دمشق الثأر يا آخر حب وكرامة
فجّري الإيمان فيمن فضّلوا حبّ السلامة
اعزفي أنشودة الصاروخ لحناً عبقرياً
وامسحي العار الذي أمسى شعاراً عربياً”
وبقي يدافع بشعره العمودي والشعر الحرّ عن فلسطين إلى أن توفي في عام 1996.
الأنسنة والسخرية
أما الفصل الثالث من الكتاب فكان لتحليل سخرية الوصف عند صقر عليشي، فهي إحدى أدواته المتميّزة في كلّ الموضوعات الشعرية التي يعالجها، وتوقف الكاتب عند اختيار العناوين المثيرة والأنسنة (قالت الدائرة، قال النبيذ، قالت البصلة)، وأحياناً يتطابق العنوان مع النص كما في قصيدة غيابك:
“غيابك هزّ السكينة
يغلق باباً
ويفتح باب
غيابك يترك أسئلة
في فضائي
ويترك أسئلة
في فضاء الكتاب”.